إسبرطة أخرى ورجالها اشداء..

جباليا.. موقد الانتفاضة التي أضحت مقبرة الجيش الذي لا يقهر ودرع حماس الفولاذي ’’بروفايل‘‘

المدنية أونلاين/عمر محمد حسن/خاص:

لم يخطُر في بال الصهاينة في العام 1948م أن تقوم للمغلوب على أمرهم قائمة؛ وتحت تأثير نشوة الانتصار المُعمد بالدم؛ طُرد الفلسطينيين من أرضهم عنوة؛ إلى المنافي والشتات وسار الحُلم بلا أطراف؛ كما هو الحال لأبناء عسقلان والضفة والداخل الفلسطيني الذين استقر بهم الترحال في أرضٍ غير ذي زرع بشمال قطاع غزة؛ وبات ’’مخيم جباليا‘‘ الخدر الذي يأوي إليه الفارين من أخدود النمرود ’’بن جوريون‘‘.

مرت السنين؛ وكبر أبناء المشردين والحقد معهم؛ كما هو الحال للطفل ''عماد عقل'' أحد أبناء المخيم؛ وشكلت بؤرة السخط تلك مصدر قلق للصهاينة؛ وفجر الفلسطيني انتفاضته الأولى في كل أرجاء الوطن الكلالة من مخيم جباليا ’’ثورة الحجارة‘‘ في العام (1987م) وبدأ منجم الإبطال يرسم ملامح الرفض من خلال تشكيل قوة عسكرية مدربة قادرة على المقاومة المسلحة التي ستكتب يومًا ما.. بداية النهاية لحلم ''هارتزل''.

المخيم الذي تبلغ مساحته؛ (1.5) كيلو متر مربع؛ كانت إلقاء الزجاجات الحارقة (الملتوف) على دوريات المحتل ومخافره بداية النهاية؛ وشكلت جباليا؛ صُداعًا لساسة الاحتلال في ''تل الربيع''؛ فيما شارك المخيم بالانتفاضة الثانية (2000م) وتخلل الانتفاضتين ظهور مقاتلين أشداء على الكافرين؛ كما هو الحال للبطل الفلسطيني ’’عماد عقل‘‘ ابن المخيم وأحد قيادات كتائب الشهيد عزالدين القسام الذي يتذكره الصهاينة بـ’’كابوس أورشليم‘‘.

أدرك المخيم الأكثر اكتظاظا في القطاع؛ أن الخيار العسكري هو قدرهم المحتوم وبدأ الأباء يسوقون أطفالهم إلى المساجد؛ وتشرب الأطفال العقيدة هناك وانضوى الصبية في حركة حماس والجهاد الإسلامي وحركة فتح؛ ابتسم لهم الشيخ أحمد ياسين وقال لهم :"أنتم من سيحررون فلسطين"؛ كان ياسر عرفات ومروان البرغوثي وفتحي الشقاقي وصلاح شحاته يرون فيهم بيارق الأمل، وأي أمل كتحرير فلسطين يا ولدي..! 

يعول الكيان على البطش لوأد الحركة التحررية في المخيم؛ وحاول الاحتلال اجتياح المخيم في 2001م و 2003م إلا أن المواجهات معه أجبرته على الانسحاب؛ ليعيد الكرة مرة أخرى في العام التالي (2004م) ضمن ما أسماها ’’أيام الندم‘‘ كشعار دعائي للعملية العسكرية لصناعة الخوف، والتي أطلقت عليها المقاومة الفلسطينية ’’أيام الغضب‘‘ لإظهار البأس وهي عملية جس النبض واختبار قدرة المقاومة على التصدي والتي استمرت (17) يومًا، تكبد خلال خسائر كبيرة وشملت العملية العسكرية للمحتل -حينها- جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون.

ليس بمقدور الشباك توقع هذا العنفوان في التصدي؛ ونوعية الأسلحة التي استخدمت في المعركة التي تنوعت بين عبوات ناسفة ’’شواظ3‘‘ وقاذفات ’’الياسين والبتار‘‘ التي حصدت معها الدبابات والجرافات وناقلات الجند في شوارع جباليا؛ ويتبدد حلم الجيش الذي لا يقهر في احتلال جباليا خاصة والقطاع كله.

حاول كل من أمسك بالصولجان اجتثاث المخيم لكن تبدد الوهم وانحسر الحلم منذ ديفيد بن غوريون وموشيه شاريت وليفي إشكول وإيغال آلون وغولدا مائير وإسحاق رابين ومناحم بيغن وإسحاق شامير وشيمون بيريز وبنيامين نتنياهو وإيهود باراك وارييل شارون وإيهود أولمرت ونفتالي بينت ويائير لابيد؛ وشكل وأد المقاومة برنامجًا انتخابيًا في إسرائيل للأحزاب الإسرائيلية والمتطرفة منها؛ من يدعوا إلى قتل الأطفال يحظى بدخول ’’الكنيسيت‘‘ معززًا ذلك حاخامات الكيان الذين يقولون بأن قتل أطفال غزة دين كما تذهب إليه التوراة -كما يقول كبارئهم- مما يجعل هذا الكيان المتوحش منبوذًا في الإتجاهات الأربعة، هذا ما شاهدته العيون من حالة السخط في كل عواصم الدنيا. 

المخيم الذي يعد رُسنًا لمعركة طوفان الأقصى؛ قصفته إسرائيل بجميع أنواع الأسلحة حتى بات أشباحًا مما استنفذت معها المخازن الصهيونية كل أدوات الفناء؛ لتعزز إسرائيل معها ترسانة الموت من أمريكا وبريطانيا وألمانيا وتوحد المنتصر في الحرب العالمية الثانية جميعهم لقتل الشعب الفلسطيني في غزة: اليهود والفرنجة.. الصليب ونجمة داؤود.. الكنيس والكنيسة.. الحاخام والبابا.. الذهب والمال والإعلام.. الشرق والغرب والناتو.

تنوع القتل في غزة إلا أن الموت واحد؛ تألف القراصنة من كل حدب وصوب؛ من أحفاد لورانس والمطبعين والأخوة الأعداء، يقاتل جميعهم نزولًا عند رغبة الصهاينة ضنًا منهم إسكات المقاومة الفلسطينية؛ ومعها ما زالت حماس قوية كالفولاذ.. ثابتة كالقباب.. راسية كالفلك.. شاخصة كالشمس.. يانعة كالأغصان.. مشرئبه كالمنارات.. فارعة الطول.. منيفة كالجبال.. عنقاء كالسنديان.. عصية على الانكسار. 

مذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول من العام قبل الماضي؛ حاولت إسرائيل احتلال جباليا ضمن اجتياحها البري لقطاع عزة؛ وفي كل مرة تعلن فيها إسرائيل على اختلاف منابرها الإعلامية والدعائية تطهير جباليا من قوات حماس لكنها أماني يحسبها الظمآن ماء؛ وتعددت المحاولة لكن ثمة اشباحًا كما تذهب إليه إسرائيل؛ تخرج من بين الأنقاض كما لو كانت عصى موسى "تلقف مأ يأفكون". 

جباليا التي يراها الاحتلال قطعة بتزا إيطالية قابلة للالتهام؛ حيث أنها في حقيقة الأمر -بحسب خبراء عسكريين- يصعب التهامها كما لو كانت عضمه غير قابلة للبلع كغزة؛ وما إن استحالت كل الطرق إسقاطها بعد 15 شهرًا من حرب الإبادة فكر الصهاينة بتنفيذ خطة ’’الجنرالات‘‘ التي ترمي إلى نسف المنازل وتحويل جباليا إلى ركام لإقامة منطقة عازلة ضنًا منهم أن جبل الركام سيعصمهم من طوفان الأقصى وصواريخ حماس المسومة، لكم ثمة طائر ''فينيق'' ينهض من تحت الركام. 

تحاول إسرائيل التي تُعترف بنقض المعاهدات والمواثيق منذ أن كانوا (اليهود) اقلية في جزيرة العرب: يهود بنو قريظة وبنو قينقع وبنو النظري؛ فغدروا بالمواثيق التي تحفظ حق الأطفال والنساء في الحرب ومنعوا الماء والدواء وفرضوا حصارًا خانقًا على جباليا ومناطق الشمال وهدموا البيوت فوق رؤوس ساكنيها من خلال الأحزمة النارية لأحياء سكنية بأكملها حتى أن المدارس والمشافي ومخيمات النزوح لم تسلم هي الأخرى من السعار الإسرائيلي التي سجلت زهى 150 ألف قتيل وجريح معظمهم نساء وأطفال.

دخلت القوات الإسرائيلية في ديسمبر/ كانون الأول من العام قبل الماضي إلى جباليا وكررت التوغل نفسه في مايو/أيار من العام الماضي لتعيد الكرة في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي ايضًا في أبشع هجوم بربري شهده الشرق الأوسط والذي يدخل شهره الثالث ضمن حرب الإبادة التي تنفذها إسرائيل بحق المدنيين.

استدعت معها إسرائيل قوات النخبة في جيشها؛ كما هو الحال لقوات الاحتياط؛ ودخلت الفرقة 162 المدرعة واللوائيين 460 و 401 ولواء جفعاتي وألوية إسناد أخرى وتزاحم قرابة خمسين ألف جندي صهيوني بحسب بعض التقديرات العسكرية؛ في أزقة جباليا؛ لكن ’’عاصمة‘‘ الشمال لم تستسلم كلينينجراد وبدأ لواء الشمال القسامي وهو من قوات النخبة في كتائب الشهيد عزالدين القسام يصطاد بيادق أورشليم كما هو الحال لقائد اللواء 401 ''العقيد إحسان دقسة'' الذي قتل في جباليا وهو أرفع رتبة عسكرية إسرائيلي يقتل في غزة.

الطيران الحربي الإسرائيلي لا يفارق جباليا كما هو الحال لغزة؛ والإسناد المدفعي للاحتلال لا يتوقف في استهداف احياء جباليا فيما لا تهدأ الطيران التجسسي على مراقبة دبيب النمل في المخيم؛ الأخير اضحى برمودا والذي أغرق في رماله ما يخفيه الرقيب العسكري عن البوح؛ وما أعلن عنه الاحتلال مؤخرًا واعترافه بثلاثين قتيلًا فقط خلال الثلاثة الأشهر من شأنه مغالطة الرأي العام الداخلي الساخط على سير العمليات العسكرية في جباليا.

وسبق للمحل العسكري والإستراتيجي اللواء فائز الدويري قوله: بأن الدبابة لا ينقص طاقمها على ضابط وثلاثة جنود في أقل الحالات كما هو الحال لمدرعة النمر (ناقلات الجند)؛ إلا أن الإعلان اليومي لكتائب الشهيد عزالدين القسام تكذب السردية الصهيونية؛ حيث أن الحصيلة الإجمالية لقتلى العدو من خلال الحساب في أقل تقديرًا له يتجاوز المئات وما مروحيات الإسعاف إلا خير شاهد على خسائر الاحتلال.

حاولت إسرائيل من خلال نظام الحماية والتحديث للدبابات، (ميركفاه4)، ومدرعة النمر، (ناقلة الجند)، فيما لا يجد نظام التحصينات والحماية لأليات الإحتلال في ظل جسارة العنفوان الفلسطيني ''فلا عاصم اليوم من أمر الله''. 

وتحارب جباليا كغزة؛ كما لو كانت إسبرطة أخرى ذات المحاربين الأشداء الذين كبدوا إسرائيل مالم تتكبده في حروبها السابقة منذ الحمل سفاحًا في 1948م؛ ويحارب الفلسطيني بقاذفات TBG المضاد للتحصينات و قاذف الياسين 105؛ وقذائف RBG و قاذف توندوم وصواريخ كورنيت؛ والسهم الأحمر؛ بالإضافة إلى عبوات العمل الفدائي وشواظ ومسميات شتى من العبوات الناسفة الصائدة لدبابات الميركفاه -فخر الصناعات الإسرائيلية- والتي تتجاوز قيمتها 9 مليون دولار خاصة الجيل الرابع منها.

حاولت إسرائيل من خلال القبة الحديدة ومقلع داؤود وحتى الباتريوت ومنظومة ثاد الأمريكيتين؛ ".. وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله"؛ لكن صواريخ عياش والجعبري والمقادمة وطيران شهاب والزواري مازالت تمطر الاحتلال كسفً من السماء والهلع ينتاب المستوطنين الذين يهرعون إلى الملاجئ مع كل رشقة صاروخية واصوات صفارات الإنذار؛ كنفخة الصور. 

في هذا السجال الطويل باتت يد المقاومة الفلسطينية هي الطولى رغم فارق التسليح وظلت غزة برجالها الأشداء كما لو كانت تلك الجغرافية اليونانية التي وقفت في وجه الريح، في غزة يسقط اليوم جنود الاحتلال كأحجار الدومينو، الجندي تلو الضباط بسلاح القناصة ’’الغول‘‘ صرعى.

هذه الحرب التي كسرت المألوف أظهرت ’’رابع اقوى جيش في العالم‘‘ أوهن من بيت العنكبوت في اول مواجهة حقيقية خلفت ألاف القتلى من الجنود الإسرائيليين وعشرات الألاف من الجرحى والمجانين؛ بالتزامن مع الهزيمة النفسية للكيان أصبحت حماس تسيطر على الشارع الإسرائيلي من خلال الحرب النفسية التي تمارسها كما هو الحال للداخل والخارج.

يحاول نتنياهو جاهدًا الترويج لانتصاره من خلال استعراض تصفية ثلاثة من قيادات حماس السياسيين: إسماعيل هنية ويحيى السنوار وصالح العاروري لكن الانتصار الحقيقي كما يذهب إليه الإسرائيليون أنفسهم: هل استطعنا تحرير الرهائن؛ هل استطعنا قتل قيادات حماس العسكريين؛ هل وصلنا إلى أنفاق حماس؛ هل استطعنا احتلال غزة؛ هل استطعنا منع حماس من إطلاق الصواريخ إلى إسرائيل؛ بل كيف أخفقنا في 7 أكتوبر؟