شهوة التوحش.. كيف ابتلعت الجماعة كل شيء!
في بلد "واق الواق" الذي تحولت تدريجيا إلى معسكر مغلق، علي يد القتلة، حيث يحصون ثم يدونون الأسماء في قوائم لا تنتهي، لم يعد أحد يعرف أين يبدأ الخوف وأين ينتهي. قوائم لا تفرّق بين وجه شخص يختبئ وراء ستارة من وجع، وآخر يعلّق صمته على مشجب الإنكسار. في هذه الأرض التي تسمي اليمن، صار الليل ثقيلاً له طقوس تعاقب الساهرين على بقايا ضوء، وعند انقشاع يقرع بابك لأن النهار أصبح دليل إدانة علي حلمك البارحة، تمد الجماعة يدها الملوثة برغبة التأميم، ليس فقط تأميم الخبز والمصير، بل تأميم المفاهيم ذاتها: الأمن، المصالحة، الكرامة، الإنتماء.
كل كلمة كبرى مقدسة جرى نحتها وتجزئتها ثم إعادة قولبتها لتصير سياجاً يحمي سلطتهم. لم يبق شيء في مكانه. الأمن صار رخصة بالقتل معلقة في رقابهم، والمصالحة الوطنية ذاب بريقها تحت زوامل الحرب وصرخة الايدلوجيا، والتوعية هبطت من مقام التنوير إلى ورقة منشور بارد في ملزمة سيدهم يستعمل لإثبات ولاء الناس.
في قلب هذا العبث، كان الشيخ صالح حنتوس، ذلك الذي قاوم بالكلمة، يعرف يقيناً أن الكلمة لا يُسمح لها بالتنفس، وقد عاصر ضحايا كثر لهذه الكلمة، وعلي يقين أن الكلمة، عند جماعة آمنت بأن الخوف هو أصل الأشياء، جرم يعاقب عليه صاحبها دون قضاء، يرمي في غيابات سجن طويل، أو يعدم في مشهد تنقله منصات التواصل الاجتماعي ليكون عبرة لمن تحدثه نفسه.
هكذا حولت جماعة الموت الخوف إلى هاجس مقيم لليمنيين في الداخل والخارج، ثم إلى رعب يزرع عروقه في التفاصيل: النساء، الأطفال، المساجد، الأرصفة، حتى عتبات البيوت التي تئن حين تغلقها الأيدي المرتجفة. لقد وقفت من خلال تجربتي علي تفاصيل لم تكشف بعد، هزت اعماق يقيني بالمستقبل، أدركت مع كل حادثة وقفت عليها أن ذلك الفضاء المشوّه، برجال المليشيات لم تعد ذاكرة الناس تحفظ منه إلا صدى الألم، ومع ذلك تجد من يتفاءل رضا لصديق إقليمي، أو نفاقاً لمبعوث أممي بالتوافق دون شروط عدالة قضائية، وكأننا نمتلك ذاكرة عدمية لا تذكر سوى ما يمحو نفسه كل يوم.
ما تزال التقارير الحقوقية والصحفية متخمة بأرقام الضحايا والجرائم التي يضيق بها الورق، ما تزال السجون تخفي في جوفها أنين نساء لم تعد لهن شجاعة البوح. لا لأن الجرح اندمل، بل لأن البوح نفسه صار تهمة، نبذل جهدنا لمنح الضحايا جزءً من الشجاعة، ليبوحوا بهذا الألم لأنه أصبح جزء من تاريخيا الذي يجب أن ندونه ونقف أمامة، ونخلفه للأجيال طمعاً في عدم وقوعهم في نفس مأزقنا التاريخي، ومع ذلك نجد أن هذه الجماعة يستغل هؤلاء التائهين بين القهر والعدم، ليعيدوا تدوير عجزنا كل صباح، يذكّروننا بأننا بلا درع ولا مرجعية ولا قانون نلوذ به.
وانا اتابع صوت العجوز ذات الثمانين عاماً في منزل الشيخ الشهيد سعد حنتوس أدرك أنه لم يعد ثمة وازعٌ من ضمير أو بقايا شريعة، تعتقد الجماعة أنها تحولت إلى قانون إلهي، ينزلون أحكامهم على أجساد الناس، دون احترام لقيم أو دين، ويكتبون بالرصاص على جباههم سطور الإذلال. هم يعرفون أن سحق حرصنا على وطن متهالك هو أول الطريق لترويضنا، يعرفون أن اختزال أحلامنا في همّ صغير: شقيق مختفي، جار معتقل، صديق لم يعد يجرؤ على السلام، هو المفتاح للاستفراد بوطن شاسع غابت عنه أي ملامح لمشروع أو حلم أو كرامة.
في هذا الحال البائس المديد، لشرعية ذليلة سيظل الاستبداد الحوثي يقضم ما تبقى من أرواحنا، وتتحول شهوة السيطرة إلى طقس يومي، شهوة لا تشبع ولا تخمد، شهوة تنشط كلما تنفس أحدهم حلما صغيرا، شهوة تصادر الحياة (من المكحل في إب إلى حنكة آل مسعود في البيضاء وحجور في حجة وأخيراً الشيخ حنتوس في السلفية)، وتعلن بعد كل انتصار أنها وحدها الحقيقة الوحيدة المسموح باعتناقها.
وهكذا في ظل ضعف قيادتنا الرسمية، والشعبية والثقافية، حولت الجماعة اليمن رواية كئيبة بلا عنوان. صارت الحياة غرفة تحقيق لا جدران لها، لا نافذة للنجاة، ولا شفق يلوّح بأن الفجر ممكن، صرنا نحيا ونحن نلعق الخوف كي لا نموت بسببه، ونتظاهر أن بوسعنا الاحتمال، بينما الحقيقة أننا لا ننجو إلا بقدر ما ننسى أننا بشر.
وهكذا يمضي الزمن في تلك البلاد المعلقة بين الخوف واللايقين، تتناسل فيه الفظائع بلا خجل، وتُختزل فيه أحلام الناس إلى مجرد شهوة للبقاء. في هذا الفراغ المريع، لا شيء ينقذ الذاكرة من التكلس سوى الاعتراف بأننا صرنا شهودًا على انقراض المعاني.
ورغم كل هذا الخراب، يظل سؤال الكرامة معلقا كجمر في الصدور: هل يمكن أن نعيد للوطن معناه وللإنسان مكانته؟ أم أننا سنبقى نراوغ الرعب بأملٍ واهن، نجرّ قلوبنا المثقلة بين الحفر والظلال، إلى أن تبتلعنا العتمة كاملة؟
*نقلاً عن (المصدر أونلاين)