بين يدي العام 2023
كما يحصل مع الطلبة الذين يفشلون في تجاوز الامتحانات فيحملون معهم بعض المواد التي رسبوا فيها إلى العام المقبل، نقلنا غالباً ملفات كثيرة معنا إلى العام الجديد؛ ملفات تشمل التحديات والاخفاقات؛ التدخلات الأجنبية والحروب الأهلية، التراجع في معدلات النمو وحجم الاستثمارات، التراجع في المداخيل القومية والفردية، تراجع مستويات التعليم والبحث العلمي، إضافة إلى ملفات وطنية وقومية لازمتنا خلال العقود الأخيرة.
وإذا تركنا الملفات الوطنية إلى الأخرى القومية فإن الملف الفلسطيني الذي يُعَد الأكبر والأقدم أصبح يُنقل من عام إلى آخر دون أي تقدم ولو في أبسط محتوياته، وفوق ذلك أصبحت أخبار الخلافات الفلسطينية-الفلسطينية تطغى على قضية «الصراع العربي الإسرائيلي» الذي تحول مع الزمن إلى صراع فلسطيني-إسرائيلي، قبل أن يغدو جزءاً من ملف «الحرب على الإرهاب». ومع الزمن طغى حصار غزة وقضية المعتقلين واقتحامات المسؤولين والمستوطنين الإسرائيليين للأقصى الشريف والمعاناة اليومية للفلسطينيين تحت الاحتلال على ما عداها، وأصبحت تلك القضايا تحتل عناوين الأخبار، وغاب جوهر قضية التحرير في تفاصيل الوضع الإنساني الذي سعى الاحتلال الإسرائيلي إلى اختصار القضية فيه.
ولم تطغَ تفاصيل المعاناة الإنسانية للفلسطينيين وحدها على جوهر القضية التي نتجت عن الاحتلال الإسرائيلي، ولكن العقد الماضي أفرز «فلسطينيات» جديدة أثرت – للأسف – على «القضية المركزية» لدى قطاعات رسمية وشعبية عربية واسعة لم تعد تجد التفاعل القديم مع قضية فلسطين، لأن تلك «الفلسطينيات» الجديدة شغلت تلك القطاعات واستنزفت قدراتها وأثرت على رؤيتها لمجريات السياسات والأحداث.
وإذا غادرنا الملف الفلسطيني يطالعنا الملف السوري والدمار الذي تعرض له واحد من أجمل البلدان العربية، بفعل استبداد نظام وتشرذم معارضة، وتدخل دول وميليشيات، الأمر الذي دمر الدولة، وهجَّر نصف السكان، مع استقدام «مستوطنين جدد» من ميليشيات إيرانية وأفغانية وغيرها، الأمر الذي حول وجه دمشق العربي إلى وجه آخر لا نجد صورته في قصائد نزار وحكايات الحارة الدمشقية العريقة، وتاريخ الأمويين.
أشياء مشابهة مع بعض التفاصيل البسيطة المختلفة يمكن أن تقال عن ملفات لبنان الذي كان مضرب مثل الصحافة والسياحة والثقافة والآداب والفنون، قبل تحوله إلى ساحة تصفية حسابات دولية وإقليمية أعادت بيروت التي كانت عاصمة الثقافة والذوق والجمال إلى «بؤرة طائفية» تصدر عنها خطابات الكراهية والتحريض والتحريض المضاد، مع انعكاس روحها الشاحبة على شوارعها التي تغيرت ملامحها بشكل كبير، بسبب أكداس النفايات المادية والطائفية والحزبية التي شوهت وجه بيروت وروحها.
والعراق – في مشاكله – لا يختلف عن اليمن وما يعانيه، والأمر ذاته مع بعض الفروق البسيطة يمكن أن يقال عن ليبيا والسودان، ناهيك عن ملفات أخرى في دول عربية لديها إشكالات سياسية واقتصادية وثقافية يعاد جدولتها كل عام دون أي تقدم ملموس.
في بلداننا العربية تكون التوقعات الأكثر تشاؤماً – مع الأسف – هي الأقرب للدقة، نتيجة لغياب أي مقاربات تخرج عن المألوف في تناول الإشكاليات والحلول، مشاكلنا تتكرر لأننا نجرب الحلول التي جربنا فشلها، وأوجاع هذا الجسد تتكاثر، لأن الأدوية المستخدمة منتهية الصلاحية، وهذا هو جوهر الإشكال.
يتم تجريب مقاربات فاشلة ويعاد إنتاجها بطرق مختلفة فيستمر الفشل، لأننا لا نحاول تغيير الاستراتيجية قدر ما نعمل على تغيير التكتيكات، ونستمر في أداء الأدوار ذاتها مع الاكتفاء بتغيير الممثلين في مسرحيات مملة يتكرر عرضها على هذا المسرح على مدى عقود طويلة دون تغيير يذكر، وهذا بطبيعة الحال يتعارض مع الموضوعية العلمية ويتعارض مع المعايير الفنية ومع البديهيات والمسلمات، ومع العقل والمنطق وأبسط قواعد التفكير، إذ أن الحلول الفاشلة تفاقم المشكلة، كما أن الأدوية الفاسدة تقتل المريض.
إذا أردنا النجاح فلابد من أن نسلك طريق النجاح، وإن أردنا الخروج من هذا النفق الذي مكثنا فيها عقوداً طويلة فلابد من البحث عن الخريطة الصحيحة التي ترسم بدقة تضاريس وحدود وملامح ومسارات ومخارج هذا النفق المظلم، تماماً كما أنه يتحتم على مخرج هذه الدراما الضحلة – لكي يعيد فيها روح الفن – ألا يقتصر على تغيير الشخوص والأزياء ونوعية مساحيق التجميل والديكورات، بل لابد من البحث عن فكرة جديدة وسردية مختلفة وحبكة أكثر إبداعاً، لتجاوز هذا التسطيح.
ولو أخذنا عينة واحدة من الملفات التي حملناها معنا من العام الماضي، عينة مثل «الحروب الأهلية» التي تضرب بعض بلداننا، فيمكن القول إن الخطوة الجوهرية في طريق بناء حبكة جديدة أو لنقل طرح مقاربة مختلفة، هذه الخطوة هي التخلص من «مركزية الخارج» في البحث عن الحلول، وهذا يعني بكل بساطة التخلي عن فكرة «الوسيط الدولي» بأشكاله وأنواعه وأسمائه وصفاته المختلفة، لسبب بسيط، وهو أن الخارج – غالباً وليس دائماً – أقرب لإثارة المشكل منه إلى طرح الحل.
إن أسماء مثل المبعوث الأممي، المبعوث الأمريكي، الوسيط الأوروبي، وما شابه من الأسماء والشخصيات والتوصيفات لن تجلب الحل لمعضلة الحروب الأهلية في البلدان العربية، لأن كل جهد هؤلاء المبعوثين أن يعملوا على إدارة الأزمات لا حلها. ولذلك وبدلاً من إيلاء دور البطولة لمثل تلك الشخصيات ينبغي أن تتحول الأدوار البطولية للداخل، للتركيز على سبل الحل الناتج عن إرادة وطنية، بعيداً عن المؤثرات الأجنبية.
غير أن الحلول الوطنية للمشاكل الداخلية ليست بالأمر السهل، لأن أولى عقبات تلك الحلول تكمن في تمدد الخارج في الداخل، ولأن مشاكل الداخل هي التي فتحت الأبواب للخارج الذي لا يفضي لحلول مناسبة. وإذا كان البحث عن الحلول الداخلية يقتضي تقليص دور الخارج، فإن تقليص هذا الدور لن يكون إلا بتقليص العوامل التي أدت إلى تحكم ذلك الخارج بمقدراتنا، وذلك يقتضي التوافق على ثوابت وطنية محددة، يأتي في مقدمتها اللجوء للانتخاب الشعبي والحلول الديمقراطية والسلمية، للخروج من الصراعات المستمرة التي هي في مجملها صراعات على السلطة والثروة، مهما حاولت أن تتستر بأردية براقة؛ دينية أو وطنية أو قومية.
وبطبيعة الحال فإن اللجوء للخيارات السلمية يعني تجريم اعتماد السلاح – من قبل أيٍ كان – وسيلة للوصول للسلطة، ومنع المتاجرة بالدين والقضايا الوطنية والعربية العادلة لتغليف رغباتنا ومصالحنا الشخصية والفئوية والحزبية على حساب المصالح الوطنية والقومية، وعلى حساب مقدساتنا الدينية.
يعني ذلك أن تكف الأقلية عن احتكار السلطة بالقوة، سواء كانت تلك الأقلية مذهبية أو عسكرية أو سياسية، لأن من وصل إلى السلطة بالقوة لن يخرج منها بصندوق الانتخابات، وهو ما يجعل السلطة عامل صراع مسلح، لا وسيلة من وسائل خدمة المجتمع الذي يُفترض أن تمثله سلطة شعبية منتخبة، لا جماعة أقلوية سيطرت بالسلاح والدعايات الأيديولوجية.
إن الإشكالية الكبرى التي تواجه الشعوب العربية اليوم هي الإشكالية السياسية، وإن الإشكالية السياسية تتجسد في عدم الوصول إلى مستوى من الوعي يقدم التداول السلمي للسلطة على الانقلابات العسكرية.
وعندما نصل إلى قناعة تامة بضرورة الاحتكام لـ»الانتخاب الشعبي» ونتخلى عن كذبة «الاختيار الإلهي» للحاكم في منطقتنا، ونتجاوز أسطورة «القائد الضرورة» فإننا حينها سنكف عن توظيف الدين في السياسات الضيقة، واستهلاك الوطن في الشعارات الفارغة، وعن اعتبار الشعب مجموعة من الرعايا، لا حقوق لهم إلا ما ارتآه الحاكم الذي «اختاره الله» أو القائد الذي أوجدته «الحتمية التاريخية»، وهنا سيتولى الحاكم منصبه بـ»تفويض شعبي» لا بـ»وصية إلهية»، وهذا التفويض الشعبي، هو تفويض مشروط بمدى التزام الحاكم بمقتضيات هذا التفويض الذي جاء عبر صناديق الاقتراع، وهذه المقتضيات هي الالتزام بالدستور والقانون، وما جاء في برامج العمل السياسية التي تم انتخاب الحاكم على أساسها، وذلك يتضمن نقل مركز الاهتمام من الحاكم إلى الدستور، ومن الحكومة إلى القانون، ومن الأشخاص إلى القيم، ومن المصالح الذاتية إلى المصالح العامة.
إذا وصلنا إلى مستوى من الوعي يهيئنا لتقبل تلك القناعات فإننا سنشهد انفراجة سياسية كبيرة تهيئ لما بعدها، حيث ستتلاشى العصبويات المختلفة دينياً وطائفياً، حزبياً وسياسياً، ثقافياً وأيديولوجيا، مناطقياً وجهوياً، وسوف يكون التنافس على أساس برامج العمل الانتخابية، لا على أساس مدى الالتزام بـ»مبدأ الولاية» القديم، ولا على أساس حجم التخمة الدينية أو الدعاية الوطنية أو الأيديولوجيا القومية التي تحاول بعض الميليشيات أن تظهر بها، في منطقتنا الموبوءة بنكد السياسة الذي له اليد الطولى في إعادة تشكيل الخارطة الاقتصادية والاجتماعية.
ولأن المشكل السياسي هو المشكل الأكثر مساً بحياة الناس، فإن المدخل إلى حله يمكن أن يسهم بشكل كبير في إحداث تغيير حقيقي في بقية الأنساق؛ اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، غير أن مقاربة هذا المشكل تعني الإيمان بالقناعات المذكورة التي تُعد من مسلمات الفكر السياسي الحديث والمعاصر، مع العلم أن الوصول إلى تلك القناعات على المستوى السياسي سيكون محصلة خبرات تراكمية، ومديات من الوعي المتزايد، ومستويات من التقدم التكنولوجي، والحداثة الإدارية، والحوكمة الرشيدة، وهو ما يؤكد أن السياسة والاقتصاد والاجتماع حقول متجاورة يصعب فصلها عن بعضها.
وبما أن التغيير السياسي هو المدخل الرئيسي وإن لم يكن الوحيد، وبما أنه يتطلب عوامل متضافرة من الوعي الاجتماعي والنضوج الثقافي والنمو الاقتصادي، فإن الأوضاع الراهنة في البلدان العربية المختلفة، والتي سادت أثناء العام 2022 وما قبله ستستمر معنا للعام 2023 وما بعده إلى أن تتهيأ ظروف موضوعية مناسبة لإحداث التغيير المنشود.
ما سبق كان مجرد ملامح حل لأحد الملفات الشائكة، لكن المشكل اليوم يبدو مستعصياً مع تزايد التدخلات الخارجية، وتوظيف الفتنة الطائفية لتفتيت مجتمعاتنا، ومحاولات تفكيك شعوبنا إلى مكوناتها العرقية والمذهبية، ومع تدمير وتآكل البنية التحتية والهياكل الاقتصادية، ومحاولات تحويلنا من شعوب منتجة إلى طوابير طويلة تمتد أمام أبواب الجمعيات الخيرية ومقرات برنامج الغذاء العالمي، الأمر الذي يؤدي إلى قتل الروح المعنوية والطاقات الإبداعية لشعوبنا، ويعمل على تحويل مجتمعاتنا إلى مجاميع من المتسولين الذين يعيشون على فتات المنظمات الإغاثية الدولية العاملة في دولنا التي هي في الأصل سلال غذائية عالمية ومخازن طاقة دولية وموارد مائية ضخمة، قبل أن تنتهي – على يد أبنائها – إلى حال مزرية على كافة المستويات.
وبالنظر إلى حجم الخراب المادي والمعنوي الذي تعرضت له تلك المنطقة فإن عملية الإصلاح لن تكون سريعة ولا سهلة، مع استمرار معاول الهدم المادي والفكري والروحي التي لا تزال تعمل عملها في بنية المكان والإنسان، وهو الأمر الذي يتطلب مزيداً من الاشتغال على تفكيك بنية المشكل، وتحليل طبيعة التحديات، ومن ثم العمل على إيجاد رؤية واقعية تكون أساساً لمشروع وطني جامع، يفضي إلى دولة كل مواطنيها، لا دولة طائفة أو مذهب أو أيديولوجيا أو حزب أو شريحة أو مكون أو قبيلة أو ميليشيا، ولكن دولة طبيعية تجعل كل مواطنيها يشعرون بالانتماء على أساس المواطنة المتساوية والحقوق المدنية والحريات العامة والخاصة واحترام سيادة القانون، دون تمييز.
*نقلا عن القدس العربي