عن زيارة غريفيث لمأرب الأمم المتحدة "ناين ناين ون"

صحيفة 26 سبتمبر

هي الزيارة الأولى وربما تكون الأخيرة التي يقوم بها مبعوث أممي لمحافظة مأرب منذ العام 2014م، بداية انقلاب الحوثي على الجمهورية ومخرجات الحوار الوطني التي وقعَّت واتفقت عليها كافة الأطياف والمكونات السياسية اليمنية، وكانت اليمن حينها قاب قوسين من الانفراجة الشاملة والانطلاقة نحو بناء يمن جديد موحد بأقاليمه الستة، وبمبدأ الحكم الرشيد، وجاهزية مسودة الدستور والقانون الذي تتوق إليه كافة الشعب اليمني بعد موعد الاستفتاء عليه والذي كان مخططاً أن يكون خلال أيام.

حينها انقلب الحوثيون على كل ذلك، وقضوا على كل ما تبقى من تطلعات وأحلام الشعب اليمني، من ثم بدأوا بإسقاط المحافظات ابتداءً بدماج في صعدة، وانتقالاً إلى عمران ومن ثم اكتساح صنعاء، ومحاصرة رئيس الجمهورية في منزله، وبغطاء أممي عبر مبعوث الأمم المتحدة آنذاك جمال بن عمر، الذي بدوره شّرَعن لهم باتفاق السِلم والشَراكة، وهذا ما أثبتته الوقائع والمسّلمات حينذاك، منها التسريب الهاتفي لمحادثته مع أحد قيادات الإصلاح اتهم فيه بن عمر حزب الإصلاح بالانبطاح، ولمح في مكالمته: كان يفترض عليكم مواجهة الحوثيين عسكرياً، متناسياً أن حزب الإصلاح هو مجرد حزب سياسي، ربما يمتلك حاضنة شعبية كبيرة نعم، لكنه لا يمتلك الجيش والسلاح كما لا يمتلك السلطة الرسمية التي تشرعن له أحقية المواجهة.. وحول سؤال وزير في الحكومة الشرعية له عن تغاضي الأمم المتحدة وصمتها على الحوثي وإسقاطه عمران وصنعاء تباعاً! قال المبعوث كلمته المشهورة حينها وفي ذات التسريب: (أن الأمم المتحدة هي “ناين ناين وان” أي 199) بمعنى جهة إسعاف ليست أكثر من ذلك ولا أقل، وهو ما أثبتته فعلاً كل المعطيات التي تعامل بها الحوثي مع الأمم المتحدة بكونها كما قال بن عمر!

زار المندوب الأممي مارتن غريفيث محافظة مأرب بعد أن أيقن بأنها الرقم الصعب وحائط الصد الفولاذي الذي تحطمت عليه أطماع الحوثي وداعميه، وادحضت كل مخططات النفوذ الايراني ولا سيما بعد تقدم الحوثي في مناطق نهم ومدينة الحزم، وكل محاولات مليشيات الحوثي فشلت لمجرد الاقتراب من مأرب التي عجز عن دخولها سابقاً في العام 2015م، وكانت مقاومتها آنذاك لا تتجاوز ألف فرد لا يمتلكون سوى بنادق الجرمل والقليل من الكلاشينكوف، وشكلوا يومها حاجزاً صلباً استحال على الحوثي تجاوزه، فكيف بها اليوم وقد أصبحت محاطة بجيش مكتمل العتاد والتسليح، ناهيك عن أنها تعد العاصمة الأساسية للشرعية، والحاضنة الآمنة والملجأ الوحيد لملايين اليمنيين شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً.

وصل غريفيث مأرب والتقى بقيادة السلطة المحلية بالمحافظة وقيادة قوات التحالف، ومن ثم اتجه لزيارة مخيم نازحي الجوف الذين شردهم الحوثي قبل أيام والذين تجاوزت أعدادهم ثلاثين ألف نازح، خرجوا بملابسهم فقط، لم يسعفهم الوقت لحمل أبسط الأمتعة وأخفها وزناً، فيما البعض منهم ممن يعانون ضيق اليد، تعثر عليهم الوصول إلى مأرب واتجهوا مضطرين الهروب عبر صحراء الجوف يهيمون بلا دليل، وجلّهم نساء وأطفال وجدوا في لهيب الصحراء وحرارتها والموت فيها أرحم ألف مرة من التسليم لبطش مليشيات الحوثي الإيرانية.

تحدث غريفيث في كلمته باللغة الإنجليزية عن وجوب أن تظل هذه الرقعة الجغرافية وعاءً للنازحين والباحثين عن الأمان، كما يجب أن تكون بعيدة عن أي صراع عسكري، وأن تظل المتنفس الوحيد لكل الشعب اليمني، منوهاً كعادته في أي زيارة لأطراف الصراع حد وصفه أنه يبحث عن تقارب وجهات النظر وإيجاد حلول وتسويات سياسية شاملة؛ فالشعب اليمني لم يعد يحتمل المزيد من الحروب والصراعات، وأضاف أنه في حال استمرت الحرب ستهوي اليمن في دائرة واسعة من العنف والمعاناة مالم تُستأنف عملية السلام التي ينشدها، مشيرا إلى وجوب العمل على وقف الأعمال العسكرية فوراً.

وخلال المؤتمر الصحفي الذي عقده في مقر المحافظة رفض الاستماع لأي أسئلة تتهم الحوثي أو تستعرض انتهاكاته بحق الشعب اليمني وتشريده واستنزاف ثرواته وسلب حقوقه، وعن كونه المقوض لأي عملية سلام تتبناها الأمم المتحدة وآخرها اتفاق ستوكهولم.. وكأن مارتن جاء محامياً عن إجرام الحوثيين وليس مندوباً أممياً يفترض أن يقف بمسافة واحدة من الجميع!

وفي سؤال عابر لأحد الصحفيين عن أسباب امتناع المبعوث الأممي في كل إحاطاته وعدم تصريحه عن الطرف المعيق لاتفاق ستوكهولم، ويسعى بكل الجهود لتقويضه والحيلولة دون تنفيذ الاتفاق على أرض الواقع رغم تزمين مدة الاتفاق والتي لا تتجاوز الشهرين بحسب بنوده، فيما قد تجاوزت العامين!!

تنصل مارتن غريفيث كأي محامٍ صقلته التجارب السياسية وأجاب على السؤال بأسلوب دبلوماسي بقوله: أنا لست قاضياً لأصدر حكماً بذلك، أنا مبعوث سلام جل مهامه هي استئناف العملية السياسية في اليمن والسعي لتقارب وجهات النظر السياسية وإيقاف العمليات العسكرية بين أطراف الصراع.

وفي المساء التقى المبعوث الأممي بفريق منظمات المجتمع المدني المتواجدين بالمحافظة وقبل أن يبدأ الحديث أخبرهم بحسب أحد الحضور، بأنه لم يأتِ لسماع كلام مسيء ضد الحوثي، لكنه جاء ويرغب بتلقي أي مبادرة سلام تستطيع من خلالها المنظمات تدعيم مساعيه الأممية لإنجاح العملية السياسية في اليمن، وحين استمر النقاش حول انتهاكات الحوثيين وجرائمهم ضد الشعب اليمني أنهى الرجل اللقاء مباشرةً والذي لم يستمر أكثر من نصف ساعة ثم انصرف، وهذا بلا شك يُعد دليلاً واضحاً عن النوايا غير الحسنة التي يحملها المبعوث، بدا ظاهرها مساعٍ داعمة للسلام وباطنها حماية مليشيات الحوثي وشرعنة انتهاكاتهم التي اخترقت كل العهود والمواثيق.

من جهته تحدث محافظ مأرب باسم الشرعية وقيادة السلطة المحلية في إقليم سبأ قائلاً: أنه لا استقرار ولا تنمية الا بسلام، لكن سلام في ظل مليشيات هذا ليس بسلام، مضيفاً “نحن مع السلام الحقيقي المشرف، ولا يشرفنا أن نكون مع سلام كاذب”.

حديث العرادة نابع عن قيادة حقيقية اتسمت بالحصافة والقوة بذات الوقت، وأثبتت أن من يمتلك زمام الأمور على الأرض يستطيع امتلاك كامل الثقة بإمكانياته القوية المتواجدة في الميدان، وهذا ما سيجعل مارتن غريفيث يعيد النظر في قراراته التي سيتخذها هذه المرة كونها الزيارة الوحيدة التي يجد فيها قوة سياسية يستحيل فرض الشروط عليها.. وبهذا ستتلاشى تلك الصورة الهزيلة التي تشكلت فيها الشرعية بمخيلة الرجل.

ما هو واضح وجلي اليوم أن قيادة مأرب ممثلة باللواء سلطان العرادة قد تعاملت مع مبعوث الأمم المتحدة مارتن غريفيث بأنه ليس أكثر من “ناين ناين وان 199″، وهو ما لوحظ فيما حدث من تقدمات للجيش في جبهة اليتمة في الجوف وتمكنه من التقدم بعد خروج المبعوث من مأرب بيومٍ واحدة فقط.

وهذا هو التعامل الحقيقي الذي ينبغي أن تتعامل به السلطة الشرعية وحكومتها مع الأمم المتحدة من خلال معطيات المراحل السياسية والميدانية القادمة، وليس هناك سلطة تستطيع إرضاخ عصبة الأمم غير سلطة القوة على الأرض، حينها ستفرض الشرعية اليمنية المعترف بها دولياً شروطها بكل ثقة، وستعمل الأمم المتحدة على تنفيذها رغماً عنها، وما عدا ذلك لن تنال غير المزيد من الخذلان الأممي والانتكاسات المتلاحقة لو استمرت بذات التعامل لهذا المبعوث أو ذاك، وما جمال بن عمر عنكم ببعيد.