تونس تودع رئيسها الباجي قائد السبسي في جنازة وطنية كبرى

المدنية أونلاين ـ صحف :

 احتشد الآلاف من التونسيين السبت على جنبات الطريق التي تبلغ حوالي عشرين كيلومترا من قصر الرئاسة بقرطاج، شمال العاصمة، إلى مقبرة الجلاز عند مدخلها الجنوبي، مرورا بأبرز شوارع العاصمة، الحبيب بورقيبة ومحمد الخامس والمنصف الباي، لتوديع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، أوّل رئيس تونسي منتخب ديمقراطيّا الذي شيّع في جنازة وطنية كبيرة بحضور العديد من قادة الدول.

عند قصر قرطاج وضع جثمان الرئيس الراحل المغطى بعلم تونس في شاحنة عسكرية حيث بدأت مراسم رسمية قبل أن يبدأ الموكب بمرافقة فرق من الخيالة طريقه باتجاه المقبرة.

وفي الطريق، علت أصوات تلاوة القرآن من مآذن المساجد، واختلطت دموع المودعين بموجات التصفيق والزغاريد، فيما رفع المودعون العلم الوطني، وردد متحمسون النشيد الوطني، وتعالت من وسط الحشود أصوات بعضها يغني النشيد الوطني والبعض الآخر “تحيا تونس”، وهي الكلمة التي كان الباجي قائد السبسي يحرص أن يختم بها كل أحاديثه وحواراته.

وداع مزودج

اختلطت مشاعر التونسيين الذين كانوا يودعون الباجي قائد السبسي والحبيب بورقيبة في نفس الوقت، لا فقط لأن الرجلين من مؤسسي دولة الاستقلال بكل مكتسباتها، بل أيضا لأن التونسيين لم يحضروا مراسم جنازة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة وحرموا من مواكبتها في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي. ولا يزال الأخير يعيش في المملكة السعودية بعد الإطاحة به في ثورة شعبية في 2011.


ووارى جثمان قائد السبسي، الذي توفي الخميس عن 92 عاما، الثرى في تربة آل قائد السبسي في المقبرة الرمز بالعاصمة التي يرقد فيها العديد من أعلام البلاد ومن شهدائها الذين سقطوا في معركة الجلاز سنة 1911، وفي معارك عديدة ضد سلطات الحماية الفرنسية من أجل بناء دولة الاستقلال التي كان الباجي قائد السبسي أحد مؤسسيها وحارس مكتسباتها إلى آخر لحظات حياته.

وهي المرة الأولى في تاريخ الجمهورية التونسية منذ 1957 التي تقام فيها جنازة وطنية مهيبة لرئيس دولة تونسية توفي وهو على رأس السلطة. ولا يذكر التاريخ أن التونسيين شاركوا في جنازة حاكم بهذه الروح الوطنية والعفوية، إلا في جنازة محمد المنصف باي، الذي يرقد غير بعيد عن مثوى الباجي قائد السبسي.

والمنصف باي هو الباي الوحيد الذي دفن بمقبرة الجلاز. وقد كانت له رؤية إصلاحية جعلت التونسيين يطلقون عليه لقب باي الشعب، مثلما أطلقوا على الباجي قائد السبسي، لقب رئيس الشعب.

وقالت فرح، المهندسة المعمارية الأربعينية التي وقفت في انتظار الموكب قرب تمثال أول رئيس للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة في وسط العاصمة، “جئت تكريما لما فعله من أجل المرأة”.

وقالت نجوى الخذيري، وهي من بين أكثر من مليون امرأة منحن أصواتهن للباجي قائد السبسي في انتخابات 2014، “جئنا من أجل الوداع الأخير، سيترك قائد السبسي فراغا رهيبا في السلطة وسيترك تحديا جسيما للمتنافسين على منصب الرئاسة”.

وأكدت نبيلة، التي كانت ضمن عدد غفير من التونسيين المحتشدين، في شارع الحبيب بورقيبة، «إنه يوم حزين لتونس. فقدنا رجل دولة كبيرا كان له دور هام بعد الثورة وساهم في توحيد التونسيين وتخفيف حدة الخلافات التاريخية مع الإسلاميين».

وقال سمير الباغولي “لست من أنصار قائد السبسي حينما انتخب في 2014، ولكن احترم صراحته وحبه لتونس وقدرته على توحيد التونسيين، نحن نفتخر اليوم بهذا الموكب وهذه الروح الوطنية”.

ونجحت تونس في أن تؤمن جنازة وطنية تليق بتونس الباجي قائد السبسي، أمنتها مختلف المؤسسات العسكرية والأمنية التي اتخذت احتياطات استثنائيّة بتسخير كافّة الإمكانيّة البشريّة والمادّية لتأمين موكب الجنازة في مختلف مراحله، مع الأخذ بعين الاعتبار مواكبة التجمعات التلقائية للمواطنين.

ونُظم موكب التأبين الرسمي بإشراف الرئيس التونسي بالنيابة محمد الناصر وبحضور أفراد أسرة قائد السبسي وكبار مسؤولي الدولة. وشارك في الجنازة العديد من القادة العرب والأجانب بينهم رؤساء فرنسا والبرتغال ومالطا وملك إسبانيا والرئيس الجزائري المؤقت عبدالقادر بن صالح والرئيس الفلسطيني محمود عباس وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني ورئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج والأمير مولاي رشيد بن الحسن شقيق العاهل المغربي.

وقائد السبسي الذي تولى مناصب عدة في عهدي بورقيبة وبن علي، كان له دور فاعل في استقرار الديمقراطية التونسية بعد ثورة 2011. وترك وراءه العديد من الملفات المفتوحة لعل أهمها استكمال وتعزيز المؤسسات الضامنة للديمقراطية في الجمهورية الثانية.

انتقال سريع

وتوفّي قائد السبسي قبل أشهر من انتهاء ولايته أواخر العام الجاري. ويتوجّب على الرئيس المؤقّت، استنادا إلى الدستور، تنظيم انتخابات خلال مهلة أدناها 45 يوما وأقصاها 90 يوما.

وقرّرت الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات إثر وفاة قائد السبسي إجراء انتخابات رئاسية مبكرة في 15 سبتمبر بدلا من تاريخها الأصلي في 17 نوفمبر، فيما بقيت الانتخابات البرلمانية في موعدها المقرّر في 6 أكتوبر.

وفي كلمة مؤثرة قال محمد الناصر «قضى حياته في خدمة تونس والحفاظ على مكاسبها والدفاع عن قيمها، ومات في يوم عيد الجمهورية». وأضاف وهو يغالب دموعه أن الباجي قائد السبسي كان خلال فترة حكمه صانعا للوفاق ومناصرا للوحدة الوطنية والحوار.

وينظر التونسيون اليوم إلى محمد الناصر باعتباره سليل المدرسة البورقيبية التي تخرج منها الباجي قائد السبسي. ويعتبرون وجوده أحد أبرز أسباب حالة الهدوء التي شهدتها البلاد ونجاح عملية الانتقال السلمي للسلطة.

وعبّر الكثير من التونسيّين عن فخرهم بالانتقال السريع والدستوري للحكم، في بلد يُعتبر الناجي الوحيد من تداعيات الربيع العربي ويُواصل مسيرته نحو الديمقراطية رغم التحدّيات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية وتهديدات الجماعات الجهاديّة المسلّحة.