الناقد الأكاديمي علي الزّبير يحلّـق مع الشاعر الفضول (في معراج الروح)

المدنية أونلاين/فؤاد مسعد/خاص:

بين أحضان الطبيعة من غيم وظلال وندى ونسيم وشمس ونجوم، وطل ومطر وأزهار وأنهار..

 (من الضحى حتى قدوم الأصيل

بين الندى والظل تحت النخيل

وغمغمات النهر مثل الهديل..)

تنطلق الذات الشاعرة محلقة في فضاء الإبداع على جناحي الحب والوطن،

وعلى أثير الكلمات الساحرة المعبرة والألحان النديّـة المؤثّـرة..

(يحيا هنا والحب ما بيننا

يحيا وظل الورد من فوقنا

والزهر تبري عطرها حولنا..)

"وبذلك يكون الشاعر قد بلغ بالموقف الشعري إلى أبعد عمق دلالي ممكن، وكأنه في ذلك متصوف يصوّر عروج روحه من مقام إلى آخر".

ما كُتب أعلاه إشارة إلى إصدار جديد في مجال النقد الأدبي، مؤلّفه الدكتور/ علي عبده أحمد الزبير، أستاذ الأدب العربي بجامعة عدن، وعنوانه (في معراج الروح)، دراسة فنية في شعر عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول)،  الذي يرى المؤلف أنه "شاعر موهوب جعل من شعره مرآة تعكس ما في نفسه بكل صدق ووضوح في المواقف النفسية والفكرية المختلفة".

يتجلى ذلك- وفقا للمؤلف- حين يعرج الفضول بشاعريته على الوديان والروابي الخضراء فتنتفض في نفسه لواعج الأشواق والحنين فيرسمها حية نابضة تتسلل بيسر إلى نفس المتلقي فيشعر أنها لم تكتب إلا من أجله هو، وربما انتابه شعور بأنه هو من كتبها، والفضول في كل ذلك يتعامل مع اللغة بوصفها وسيلة لتجسيد الروح قبل أن تكون مجموعة من القواعد والأصول والالتزامات، ومن ثم فإننا لا نستغرب حين نجده كثيرا ما يتمرد على قواعد النحو فيكتب شعرا حمينيا، أو يسأم الالتزام بقافية واحدة في النص فيلجأ إلى تنويع القوافي، أو يخالف نظام عدد الأسطر والمقاطع في مسمطاته أو موشحاته، إذا شعر بالإشباع الروحي واكتمال الفكرة.

ويقع الكتاب الصادر مؤخرا عن دار أمجد- عمّان الأردن، في 397 من القطع الكبير، موزعا على أربعة فصول وتمهيد وخاتمة، ومعتمدا منهج التحليل الفني كأساس قامت عليه الدراسة مع الإفادة من المنهج الإحصائي، بغية الوصول إلى نتائج أكثر دقة، كما يقول المؤلف في المقدمة.

تناول التمهيد الأبعاد الموضوعية في شعر الفضول، وسلط الضوء على أهم بعدين من الأبعاد التي أحصى الباحث منها عشرة أبعاد موضوعية، استأثر (البعد العاطفي) بأكثر من نصف المادة الشعرية البالغة 141 قصيدة، إجمالي عدد القصائد التي جمعها كتاب (أشعار الفضول) الصادر عن الهيئة العامة للكتاب بصنعاء في العام 2009، واعتمدها الباحث مادة للدراسة، ويأتي (البعد الوطني والسياسي) في المرتبة الثانية ثم (البعد الفكاهي)، وبعده تأتي الأبعاد الأخرى كالرثاء والمديح وغيرهما.

خصص المؤلف الفصل الأول من الكتاب لدراسة المعجم الشعري، أما الفصل الثاني فقد خصص لدراسة التراكيب والأساليب اللغوية وأبرزها حضورا في تجربة الشاعر الفضول الاستفهام والنداء و(كـمْ) الخبرية، ثم دراسة قضية التناص، وخصص الفصل الثالث لدراسة الصورة الشعرية بالتركيز على مصادر الصورة ومحاورها وأنماطها (البيانية والرمزية)، واختص الفصل الرابع بدراسة الإيقاع الشعري في مبحثين، تناول الأول الإيقاع الثابت (الوزن والقافية)، وتناول المبحث الثاني الإيقاع غير الثابت ويشمل (التكرار، التوازي، الجناس، الترديد، التصدير).  

الدكتور/ علي الزبير يتحلى بروح الباحث الدؤوب الذي يعمل دون كلل أو ملل في مضمار البحث الأدبي عامة والشعر منه على وجه الخصوص، وهو إذ يضع النص/النصوص في دائرة الضوء يكشف عن خبرة ومعرفة وثقافة واسعة، تشمل اللغة العربية وآدابها والتاريخ القديم والحديث معا، وقد أفاد الدكتور الزبير كثيرا من تخصصه الأكاديمي في الأدب العربي القديم، فاتسمت كتاباته ودراساته بالعمق والأصالة، مع قدرته على اختبار أدواته واختيار المناسب منها كلما أمعن النظر فيما بين يديه من نصوص، وله دراسات ومقالات أدبية عدة.

يستهل الباحث دراسته بمقدمة يكشف من خلالها عن معرفة قديمة بإبداع الشاعر الفضول، تعود إلى مرحلة الصبا، "منذ أن بدأت أدرك معاني الكلمات، وتتراقص نفسي مع الألحان والأنغام، وقد كان الوسيط في هذه المرحلة المبكرة هو الفنان الكبير أيوب طارش عبسي، وغيره من الفنانين الذين شنفوا الآذان بكلمات الشاعر..".

يتذكر المؤلف كيف ظلت علاقته بشعر الفضول تنمو وتتسع حتى صار طالبا جامعيا في قسم اللغة العربية، وكم كان يسعى للحصول على (ديوان الفيروزة)، وظل ذلك هاجسا لا يفارقه، وحين تمكن من زيارة مدينة (تعز) لأول مرة بعد قيام الوحدة اليمنية ظل يبحث عن (الفيروزة)، لكن دون جدوى، تكررت عمليات البحث في زيارات أخرى لتعز وتكررت النتيجة السلبية، الأمر الذي أعاد علاقة المؤلف بشعر الفضول إلى المربع الأول، حتى عثر على كتاب (أشعار الفضول) الذي أصدرته هيئة الكتاب، ليعود الحلم القديم إلى صدارة الاهتمامات، ليس بدراسة (الفيروزة) هذه المرة، بل كل أشعار الفضول التي تضمنها الكتاب".  

البعد الوطني في شعر الفضول

يقول مؤلف الكتاب أن الشاعر المبدع عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول) حين ينصرف للتعبير عن الحب والجمال، "لا يعني أنه كان غائبا عما يجري في وطنه من أحداث وصراعات ومواقف، بل على العكس من ذلك، كان الوطن واحدا من الهموم التي امتلأت بها نفسه فعبر عنها، لا بالشعر فقط، بل بالنضال المعرفي والإعلامي-أيضا- فكانت له صولات وجولات في ميدان الصحافة  الوطنية في عدد من الصحف، قبل أن يؤسس "صحيفة الفضول"، الاسم الذي التصق به حتى يومنا هذا.."، وبسبب مواقفه الوطنية ناله الكثير مما نال رواد الحركة الوطنية اليمنية من نفي وتشريد واعتقالات وملاحقات، فضلا عن كونه من أسرة رائدة في النضال الوطني، فهو ابن الشيخ عبدالوهاب نعمان أحد قيادات ثورة 1948، وقد حكم عليه الإمام أحمد بالإعدام مع رفاقه عقب فشل الثورة، كما أن ابن عمه الأستاذ أحمد محمد نعمان يعد من قادة العمل الوطني الذين قادوا المعارضة ضد الحكم الإمامي منذ وقت مبكر مع رفيق دربه الشهيد/محمد محمود الزبيري.

"ولعل قراءة واحدة في قصائده الوطنية والسياسية- ما غُــنــّـي منها وما لم يغنّ كافية للدلالة على مقدار ما يكنّه من حب لوطنه" الذي تغنى بكل ما فيه من معالم الطبيعة من سهول ووديان وجبال وهضاب وأنهار..

إنهــا أرضــي وقد جــغرفهــا    حبُّــهـا فيّ جبالا وهضابــا

سوف أمضي فوقها مستبسلاً    وسأحياها عمارا وخرابا

يرى المؤلف أن الشاعر الفضول قدم في شعره صورة توضح رؤيته لوحدة الوطن، صورة "حلمية رومانسية بسيطة بعيدة عن التفكير في التركيبية الثقافية والأيديولوجية للشطرين، أو الظروف الداخلية والخارجية المهيئة لنجاح توحدهما، وما شابه ذلك مما قد يخطر في أذهان أصحاب التنظير السياسي، إنه لا يرى في (الوحدة) إلا فجرا أوشك أن ينبلج من ليل التشطير، وإشراقة ليس بعدها غروب، وحلما ممزوجا بدماء اليمنيين ونبض قلوبهم.. ".

يا شمالا يحمــل الهــمّ بنـــا   مطرقاً يصغي إلى همّ الجنـوب

سوف يمضي الليل من آفاقنا  لنلاقي الفـجـر في يوم قريـب

وحدة الشطرين في أعراقنا    نغمُ تعزفه نبــض القلـوب

ويمضي المؤلف في دراسته القيمة بما حوت بين دفتيها من قراءة جديدة لشاعر متجذر في الوجدان الوطني، وخالدا في ذاكرة الوطن، كيف لا وهو الذي أبدع كلمات النشيد الوطني وتغنى بالوحدة قبل سنوات من تحقيقها، وسيظل الفضول حاضرا في الشعور الجمعي اليمني شعرا مجيدا وغناءا جميلا يتردد اسمه على ألسنة الأجيال جيلا بعد جيل.