سعودي يفوز بجائزة الشارقة للرواية

المدنية أونلاين ـ متابعات :

اختارت مجموعة من الروائيين العرب استلهام سير شخصيات تاريخية وصوفية عربية، وإعادة كتابة حياتها، في ما يشبه سيرة أو “تخييلا غيريا”. وهي أعمال تلتقي فيها الواقعة التاريخية بخيال الروائي.

ولعل هذه الأعمال تريد الاقتداء بعمل استثنائي لأمين معلوف هو “ليون الإفريقي”، وفي درجة ثانية رواية “العلامة” لبنسالم حميش، عن سيرة ابن خلدون وفلسفته في التاريخ، وقبلها روايته “مجنون الحكم” ثم روايته “هذا الأندلسي”، التي استلهمت حياة المتصوف الأندلسي ابن سبعين، صاحب الرسائل، وقبله رواية “الحوات والقصر” للجزائري الطاهر وطار، ثم “كتاب التجليات” لجمال الغيطاني، الذي استحضر روح ابن عربي، تبعه في هذا المنزع الصوفي الكاتب العراقي المقيم في لندن لؤي عبدالإله في “كوميديا الحب الإلهي”، والكاتب السوري خليل الرز في “البدل” وغيرهم.

لكن الغالب هو أن المبيعات والفتوحات التي حققتها “قواعد العشق الأربعون” للروائية التركية أليف شافاك منذ ظهورها، قبل عشر سنوات من اليوم، هي التي جعلت الرواية العربية تنزع، اليوم، منزعا تجاريا، وهي تعيد على مسامعنا سير المتصوفة وأخبارهم وأيامهم. والحال أن عوالم هؤلاء روائية، في الأصل، بما أوتيت من خيالات مجنّحة وتأملات محلّقة.

ذلك على غرار رواية “طيف الحلاج” للكاتب السعودي مقبول العلوي. وعلى غرار ما نجده في سيرة الحلاج الجديدة، التي كتبها رامز محمود محمد، وصدرت قبل أيام، عن دار الفرقد، بعنوان “ترانيم الحلاج”، سعى فيها إلى “التقاط ترانيم ما كتبه الحلاج بدماء قلبه، ولحنه من صميم روحه”.

والحق أن حضور الصوفي والتاريخي في المتن السردي المعاصر لا يقتصر على الكتّاب العرب. ويمكن أن نستحضر هنا نص “الرومي: نار العشق” للإيرانية نهال تجدد، و”بنت مولانا” للفرنسية مول موفروي. وقد سُئل الكاتب الفرنسي ريجيس دوبري مرة عن حضور التصوف والتاريخ في رواياته، فأجاب بأن الرواية تسمح لنا بأن نقدّم ما لا تستطيعه كتب التاريخ وغيرها. 

 

رواية مقبول العلوي تستحضر طيف الحلاج وتغرق في دمه المهدور
رواية مقبول العلوي تستحضر طيف الحلاج وتغرق في دمه المهدور

 

رسالة الحلاج

تحكي “طيف الحلاج”، الصادرة عن دار الساقي، آلام الأستاذ نوري إبراهيم، والذي تقرر الجامعة سحب شهادة الدكتوراه منه، وكان موضوعها عن “الظروف السياسية والاجتماعية التي ساهمت في ظهور التصوف خلال العصر الوسيط: الحلاج نموذجا”. وقد تم تسخير وتجييش الكثير من الطلاب والجماعات المتشددة كي تطعن في أهلية الأستاذ نوري ورسالته الجامعية التي رماها خصومه بالإلحاد والزندقة. وقد استند الخصوم في دفوعاتهم إلى مقولات الحلاج التي يوردها الباحث في رسالته الجامعية، والتي لم يفهمها معاصرو الحلاج، ولم يفهمها معاصرو نوري إبراهيم. ما يدلّ على أن الوعي العربي لم يبرح مكانه منذ ما يزيد عن ألف سنة.

لكن أسباب رواية مقبول العلوي إنما تعود إلى الحقد الذي كاله الأستاذ الجامعي فالح لابن عمه نوري إبراهيم، الذي يشتغل أستاذا مساعدا في الجامعة نفسها. والسبب كل السبب أن نوري سوف يتزوج بحليمة، زوجة فالح السابقة، والتي طلبت الطلاق من هذا الأخير، بعدما اكتشفت عجزه الكبير. وهنا، يكاد الروائي السعودي مقبول العلوي يختصر الحكاية في قضية جنسية، مقابل إسقاطها على قضية إنسانية هي قضية الحلاج. لكن الكاتب سوف يبرع في توظيف الرواية التاريخية وفي رسم الخلفية الصوفية للرواية، خاصة عندما تتماهى شخصية البطل الروائي “نوري” بالبطل التاريخي “الحلاج”.

يرى بطل الرواية أن ما وقع له من اتهام بالكفر والزندقة شبيه بما وقع للحلاج، فيعود بنا إلى سيرة الرجل، منذ نشأته في قرية “الطور” بالأهواز، ثم إلى “واسط” و”تستر” فبغداد… ولعلنا حين نقارن بين السيرتين “الروائيتين” نتنبه إلى هذه الأشباه والنظائر ما بين السرديتين المتخيلتين. فبطل الرواية المعاصر “نوري” يعيش أزمة كبرى بسبب الصراع بينه وبين ابن عمه فالح على حليمة “المرأة”. وكذلك الحال بالنسبة إلى الحلاج في علاقته بشيخه أبي عمرو المكي، والذي أصبح يكنّ له العداء بمجرد ما علم أنه يريد الزواج من ابنة أبي يعقوب الأكتع البصري، بينما كان المكي يريدها زوجة ثالثة له. وكما نجح المغرضون في التعريض بالحلاج وصلبه وتقطيع أيديه وأرجله من خلاف، والتشهير بجثته، تعرّض نوري للانتقام من ابن عمه عن طريق الإخصاء، ثم عاد نوري لينتقم منه ويقتله في مشهد درامي ختامي.

مخطوطة الحلاج

 

شخصيات الصوفيين جددت القصيدة العربية المعاصرة وها هي تلهم الروائيين، وتنهض لمخاطبة قراء جدد بما لم يتعودوه
شخصيات الصوفيين جددت القصيدة العربية المعاصرة وها هي تلهم الروائيين، وتنهض لمخاطبة قراء جدد بما لم يتعودوه

 

رغم رفض أطروحته، لا يزال نوري يواصل البحث في تراث الحلاج. بل إن هذا الرفض لم يزده غلا تعلقا وإصرارا. وفي ظل هذه الأزمة الخاصة، قرر نوري البحث من جديد في المصادر والذخائر والمظان لفهم كل هذا الحقد الذي طال الحلاج وتربص به. وقرر صاحبنا إعادة محاكمة الحلاج محاكمة جديدة ومعاصرة.

هنا، اختار السارد القيام بمحاكمة جديدة للحلاج، عاد من خلالها إلى أقوال المؤرخين وما أورده المعاصرون له والشاهدون على صلبه. ثم يلجأ الروائي إلى تقنية المخطوط في الرواية، حيث يعيد كتابة سيرة الحلاج، من خلال “مخطوطة الحلاج” التي كتبها بطل الرواية نوري إبراهيم، منذ الفصل الثاني من الرواية وإلى آخرها. يذكرنا هذا التوظيف للمخطوط بـ“المخطوط القرمزي” لأنطونيو غالا، و“اسم الوردة” لأمبرتو إيكو، و“القلعة البيضاء” لأورهان باموق، ومحكيات بورخيس، وأعمال يوسف زيدان من مصر وواسيني الأعرج من الجزائر ولطفية الدليمي وفاضل العزاوي وضياء الجبيلي من العراق وعبدالرحيم حبيبي من المغرب…

هكذا، اختار مقبول العلوي تقنية المخطوط، وهو يكتب مخطوطة الحلاج ويروي سيرته، مستعينا بكتب التاريخ والتراجم والأخبار، في ميتاسردية مضاعفة، وكأننا به يعيد إنتاج مأساة الحلاج مرة أخرى، كما جمع متفرقها ومختلفها المستشرق الشهير لويس ماسنيون، كبير المتخصصين في تراث الحسين بن منصور الحلاج، صاحب الطواسين والأشعار، وعجائب الكرامات والأخبار. هكذا، يظهر طيف الحلاج لبطل الرواية، ويأمره بأن يكتب مخطوطته، أي مخطوطة الحلاج، وحكايته من جديد.

ويحاول الكاتب أن يترك المخطوطة مفتوحة على اللانهائي، وهو يتساءل “كيف أكتب نهاية المخطوطة؟”، مستعيرا مقولة لدرويش عن القصيدة، بينما يقول هو “لا أريد لهذه المخطوطة أن تنتهي”، وقد التبست عليه بداية المخطوطة بنهايتها، مثلما التبس عليه الزمن، وهو يتساءل “لا أعرف هل كنت أكتب سيرتي أم سيرة الحلاج؟”.

لا يتوقف الأمر عند مجرد الاستعانة بالمخطوط، بما هو تجربة كتابية مضاعفة، يرد فيها نص تخييلي مفترض ضمن النص الروائي. فقد لجأ مقبول العلوي إلى نصوص أخرى، من بينها اليوميات، التي كتبها الدكتور فالح، ويقر فيها بعجزه الجنسي، لما تزوج حليمة، وبكراهيته لابن عمه نوري إبراهيم، إلى جانب الشهادات التي أوردها الكاتب عن الحلاج على لسان معاصريه، كما جاءت في المصادر التاريخية، حيث يقترح علينا السارد إعادة محاكمة الحلاج في الزمن الراهن.

ولا يفوت الروائي أن يعري مظاهر التخلف في الجسد العربي، عبر استحضار صورة تختين وتشكيل الإناث، في مقابل الشبق الذكوري واستيهاماته، ومفارقات الفحولة والإخصاء… ذلك أننا بصدد سيرة تحكي رواية الروح، ورواية تحكي سيرة الجسد أيضا.

وعموما، فما أشبه اليوم بالبارحة. ذلك أن شخصيات الحلاج وابن عربي وجلال الدين الرومي التي جددت القصيدة العربية المعاصرة مع صلاح عبدالصبور وعبدالوهاب البياتي وأدونيس والآخرين، ها هي تُلهم الروائيين، هذه المرة، وتنهض من النسيان لتخاطب قراء غالبهم النوم في أزمنتنا وأزماتنا المعاصرة.