عالم النفس البروفيسور مصطفى العبسي : الجهل والقات والعصبية أهم مصادر التخلف في اليمن
يفضل عالم النفس البروفيسور مصطفى العبسي تعريفنا بنفسه بكونه “من مواليد الرام في تعز، احتضنت الحديدة دراسته الأساسية، وكانت دراسته الجامعية من نصيب جامعة القاهرة، بعدها التحق بجامعة نورث داكوتا وجامعة أوكلاهوما الأمريكية. ثم اختياره كأستاذ للعلوم العصبية والسلوكية في جامعة منسوتا”.
لكن ضغطة زر وتسجيل اسم البروفيسور العبسي أستاذ الطب السلوكي وعلم النفس والعلوم العصبية، وأستاذ علم الوظائف الحيوية والطب العائلي، كلية الطب– جامعة منسوتا، الولايات المتحدة الأمريكية باللغة الإنجليزية تشبع رغبة الفضول بقائمة طويلة من الإنجازات العلمية والأبحاث والمناصب التي تقلدها في أهم المراكز والجامعات حول العالم.
وحاز العبسي خلال مشواره على جوائز عدة وكل هذا يصعب سرده الآن، لكن وفي أول حوار موسَّعْ له مع وسيلة إعلامية يمنية يقربنا من آخر ما توصل إليه في مسيرة العلم الطويلة، أهم ذلك آخر الأبحاث التي تكشف أن التعبير عن مشاعر الغضب وعلى عكس ماهو متعارف عليه أكثر ضررا من كبتها على الإنسان، وتأليفه لكتاب عن الضغوط العصبية والإدمان، ويعرفنا على مشاريعه العلمية المستقبلية.
ونناقش في الحوار قراءته النفسية للتغيير في اليمن وللفترة الانتقالية ولأطرافها، وللشخصية اليمنية، ويحذر العبسي من خطورة انتكاسة التغيير وفقدان الأمل باعتبار ذلك وصفة للخراب وبداية التدحرج صوب الهاوية والضياع حسب تعبيره.
ويفسر العبسي حرص الرئيس السابق علي عبدالله صالح على الظهور بصعوبة تخليه عن فكرة أنه لم يزل رئيسا، معتبرا أن استمراره في الظهور قد يؤدي إلى ردود فعل تحرق الجميع، ويؤكد بأن الانخراط في لعبة دموية سيخلق فراعنة جدداً، ودعا العبسي شباب الثورة إلى التركيز على الهدف الرئيسي للثورة وعدم تحويلها إلى معارك قبلية وعائلية وطائفية.
في هذا الحوار الذي نشرته صحيفة الجمهورية في عددها الصادر اليوم السبت، نناقش معه مواضيع أخرى:
< نعرف أنك أول من اكتشف أن التعبير الصريح عن الغضب أكثر ضررا على الوظائف الهرمونية ووظائف القلب من كبت مشاعر الغضب، من خلال أدلة واضحة عن خطأ النظريات التحليلية والتي تحدثت عن أضرار كبت مشاعر الغضب. كيف ذلك؟
في السابق كان الشائع ان كبت الغضب قد يسبب ارتفاع ضغط الدم واضطرابات أخرى لها علاقة بصحة القلب والشرايين وجهاز المناعة في الجسم لكن الأبحاث التي أجريناها تؤكد أن التعبير العنيف والصريح عن الغضب هو الذي يمكن أن يؤدي إلى أخطار صحية كبيرة. هذا التغير في النتائج يعود إلى تطور الأجهزة والأدوات التي نستخدمها الآن في قياس آثار الانفعالات الحادة والضغوط النفسية. بينما في الماضي كانت المقاييس أولية وكانت معظم الأطروحات نظرية دون بناء أساس بيولوجي لها.
المثير هنا أن أهمية هذه النتائج تزداد عندما نتحدث عن انفعالات الغضب وعلاقتها بأمراض القلب التي يصاب أصحابها بالسكتة. ملاحظات عديدة تؤكد ارتفاع خطر السكتة بعد مواجهة مواقف انفعالية حادة. المشاهد اليومية والملاحظات الإكلينيكية التي تؤكد ذلك كثيرة.
هناك حكاية حدثت لعالم وطبيب في القرن الثامن عشر حيث كان يقول دائما “أن حياتي في يد إي وغد يختار أن يضعني في موقف انفعالي حاد”. وذات يوم كان في إجتماع الهيئة الطبية الملكية في اسكلتندا فاشتدت حدة النقاش وعند خروجه غاضباً ومنفعلا بشدة دخل مكتبه وسقط ميتاً. حالات مشابهة تتكرر كل يوم ونراها في كل مكان. نتائج أبحاثنا تسلط الضوء على هذه الآثار القاتلة للغضب والضغط النفسي وتقدم تصورات علاجية يمكن استخدامها في التخفيف من هذه الأخطار.
< شكلت الضغوط النفسية وتأثيرها في الصحة محور برامجك البحثية فما أهم الإنجازات والاكتشافات التي حققتها في هذا المجال؟
نعم. السؤال العام الذي تدور حوله الأبحاث في معاملي تركز على محاولة اكتشاف ما الذي يجعل الضغوط النفسية مضرة بالصحة وفي إطار هذا السؤال أكملت عدة برامج تركز في البحث عن الأساليب التي تجعل الأشخاص الذين لديهم استعداد وراثي لأمراض القلب والشرايين أكثر الناس استجابة هرمونيا وعصبيا للضغوط النفسية.
ومن النتائج التي وجدناها إن هرمون الكورتيزول وهو هرمون له تأثير بالغ على جهاز المناعة وعلى وظائف القلب والشرايين وعلى مستوى السكر في الدم وعمل الكبد وجدنا أن مستوى هذا الهرمون يرتفع بعد التعرض لضغوط نفسية حادة وخصوصا لدى الأشخاص الذين لديهم استعداد وراثي لتلك الأمراض. هذا يجعل استجابتهم للمواقف الإنفعالية شديدة. الأمر الذي يزيد من احتمالات خطر تعرضهم لهذه الأمراض.
هناك برنامج آخر تضمن البحث عن أسباب قلة الحساسية بالألم عند الأشخاص الذين لديهم مستوى مرتفع من ضغط الدم في وقت كانت الاكتشافات التي خرجت بها دراسات سابقة قد أوضحت أن الأشخاص الذين لايشعرون بالألم (قلة حساسية بالألم) قد لايشعرون بالذبحة الصدرية مما قد يؤخر ذهابهم لغرفة الإسعاف الأمر الذي يضاعف أعراض هذه الذبحة وتكون أجزاء من القلب قد ماتت.
ونحن نحاول حالياً معرفة الأسباب وقد تابعنا البحث بالمقارنة بين الذكور والإناث وتوصلنا إلى أن هرمونات عديدة مستواها عالي لدي النساء مثل هرمون “الإستروجين” تعمل على إمداد أجسام النساء بنوع من الوقاية والحماية إلى عمر خمسة وخمسين سنة أو سن اليأس حيث يصبح احتمالات الخطر بعد ذلك متساوياً بين الرجال والنساء.
< ألفت كتاباً باللغة الإنجليزية عنوانه “كتاب الضغوط النفسية والإدمان”: عوامل بيولوجية وسيكولوجية، على ماذا تركز فيه ؟
كتابي يركز حول الأسباب البيولوجية والنفسية التي تجعل التعرض للضغوط النفسية سببا في اللجوء إلى المخدرات أو الاستمرار في تعاطيها والإدمان عليها. على سبيل المثال الإدمان القاتل على التدخين والمنتشر بشكل مخيف في الوطن العربي بما فيه اليمن، هذا الإدمان له كلفة باهظة على حياة وصحة الإنسان. ورغم ان الكثير من المدخنين يدركون خطورة هذه السلوك الا أنهم في معظم الأحيان غير قادرين على التخلص من هذه الإدمان.
السبب يرجع إلى العديد من المتغيرا ت البيولوجية والكيميائية التي تحدث في المخ نتيجة للتدخين. هذه التغيرات تؤدي بدورها إلى خلل في كيفية استجابة المدمنين للضغط النفسي كما تؤدي إلى العديد من الأعراض النفسية الشديدة التي تترافق مع التوقف عن التدخين مثل الإكتئاب والضيق والقلق واضطراب النوم. وفي الجانب الآخر يصبح التدخين أداة يستخدمه المدخنون للتكيف مع مختلف المنغصات والضغوط النفسية سواء كانت ضغوطا يومية عابرة او ضغوط صادمة كبيرة. نفس هذه العلاقة بين العوامل النفسية والادمان نجدها في تعاطي المخدرات.
الكتاب يركز على آخر النتائج والاكتشافات العلمية في هذا المجال وآخر الاكتشافات النفسية والسلوكية والعقاقيرية في علاج الإدمان ويقدم تصورات جديدة عن كيفية علاج مختلف اضطرابات الإدمان.
التشريح النفسي لليمنيين
< يذكر المؤرخ ابن خلدون في مقدمته أن من يسكنون الجبال يأخذون منها قسوتها وأنت تلحظ ذلك ومن يعتمدون على المطر متعجلون حيث أبصارهم تحدق في السماء مترقبة، الأمر متعلق بالبيئة ونوع المهنة التي يمتهنها أصحاب البلد أو القطر كيف تقسم اليمنيين، وكيف يمكن تشريح نفسياتهم؟
لاشك أن البيئة لها دور في تشكيل حياة الإنسان سواء كانت البيئة الاجتماعية أم الاقتصادية ام الفيزيقية في هذه الحالة نتحدث عن المناخ والطبيعة الجغرافية. ولكن لا نستطيع الجزم ان اي عامل من هذه العوامل بحد ذاته يمكن إن يكون له الأثر الحاسم في تشكيل سلوك الإنسان. فهناك العديد من العوامل وكيفية تفاعلها معا والتي يمكن أن تشكل سلوك ومزاج الإنسان.
العامل المناخي مثلا قد يؤثر على نوعية الأغذية المتوافرة او على طبيعة النشاط السكاني او على العوامل البيولوجية في الطبيعة. وكل هذه العوامل تتطلب سلوكيات معينة للتكيف معها. وقد تؤدي بدورها إلى التأثير على تشكيل الأنماط السلوكية والمزاجية لسكان هذه المناطق.
نجد مثلا سكان الجبال الوعرة الجافة يواجهون تحديات بيئية يومية مختلفة عن تلك التي يواجهها سكان المناطق الحارة او الساحلية الصحراوية. هذه العوامل تؤثر بصيغ مختلفة على حياتهم تنعكس على مزاجهم وأساليب تعاملهم مع الآخرين. هذا اختلاف في أساليب التعامل مع البيئة او مع الآخرين تساعد في تحقيق أفضل فرص لتكيف الفرد مع الظروف المحيطة.
إذن، من الصعب توصيف الشخصية اليمنية اليوم دون التمعن بالكثير من الظروف الاجتماعية والتاريخية والثقافية والجغرافية وعوامل اخرى. نعرف ان التنوع في اليمن ينعكس على التنوع في اساليب وانماط السلوك اليمني. التنوع الجغرافي يؤثر على طبيعة النشاط اليومي للناس من الزراعة او الصيد البري او البحري او العمل التجاري الخ. هذه الانشطة قد تختلف بطبيعة المناخ والجغرافية وقد تؤثر على اساليب وانماط سلوكيات الناس مع من حولهم.
نعرف في اليمن ان هناك مشكلات إضافية مثل مشكلة القات وارتفاع الأمية وغياب هياكل تعليمية وإدارية نظيفة وعوامل اخرى تؤثر وبشكل مباشر على طبيعة هذه الشخصية وأساليب تعاملها مع العمل ومتطلبات الحياة.
< يذهب علم النفس إلى أن التغيير النفسي يجب أن يسبق التغيير الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، إلى أي مدى حققت الثورات العربية ومنها اليمن التغيير النفسي، وكيف أثرت 33 عاماً في اليمن بهذا الاتجاه؟
هناك الكثير من التغييرات النفسية والمتناقضة في معظم الاحيان. فهذه الشعوب مثخنة بالإرث الثقيل جراء الظلم والاضطهاد والفرعنة التي مورست عليها من قبل الأنظمة السابقة. وهي في ذات الوقت واجهت تحديات دموية شرسة في محاولاتها للتحرر من هذه الانظمة. هذه المواجهة لها اثر قاس وصدمات سيكولوجية سيكون لها آثار طويلة المدى سببتها هذه الحروب والمآسي. هذه الآثار يمكن ملاحظتها على كل مختلف فئات هذه المجتمعات وخاصة الأطفال.
لكن من رحم هذا الإرث المؤلم ومع قيام الثورة مازالت تنبثق طاقة هائلة من الامل والاستبشار في المستقبل. لابد اذاً من الاستفادة من طاقة الامل هذه في الترتيب لمستقبل افضل.
ولذا فإنني احذر ان انتكاسة هذا الأمل سيكون لها خطر مدمر على هذه المجتمعات وعلى مسئوليها الجدد أياً كانوا. وانبه من ان فقدان الأمل سيخلق طاقة إحباط ستؤدي إلى العنف والإقتتال و قد تؤدي إلى تمزق لأوصال المجتمع وتخلق مآسي طويلة المدى. وانهيارا أمنيا واجتماعيا وعواقب نريد للوطن ان يتجنبها ويتجه نحو معالجة مشكلاته العديدة وبدء مسيرة حياة جديدة في ظل دولة مدنية ديمقراطية تحت حكم وطني رشيد.لذلك على اليمنيين في كل مكان لا تقتلوا الأمل في قلوبكم فتلك هي وصفة الخراب وبداية التدحرج صوب الهاوية والضياع.
بالنسبة لتأثير 33 عاما على القيم عند الشعب، فهذه التغييرات أو التدهور في القيم يعكس خليط من ثقافة الغاب التي نشرها الحكم السابق والإدارة الفاسدة التي عززت سياسات منظمة للتمييز والاستغلال وأدت إلى البحث عن الكسب والثروة الغير مشروعة على حساب العديد من القيم الإيجابية. هناك خيانات ترتكب يوميا للأمانة الملقاة على عاتق بعض المسئولين في العديد من المواقع. عندما تبدأ القيم الفاسدة من اولئك اللذين يفترض ان يكونوا قدوة وحماة للأمانة والقانون و في ظل ظروف الفقر والحاجة وانتشار عادات الاستهلاك فليس غريباً ان نجد هذا الانتشار في الفساد والسلوكيات القبيحة.
مرحلة قلق وتربص
< في الوضع الحالي عقب ثورة شعب، رئيس جديد ، وآخر أسقط، حكومة وفاق بالمناصفة، ثمة كتلتين مع التغيير وضد التغيير، من ناحية سيكولوجية كيف ستكون العلاقة بين هذا كله وكيف تقرأ نفسيات الجميع في مرحلة الانتقال واثارها؟
هذه مرحلة تربص وقلق. الصفتين متلازمتين عند الجميع، يزداد القلق مع زيادة الغموض حول المستقبل. رغم ماذكرته سابقا حول الامل بمستقبل افضل الا ان استمرار مرحلة الغموض قد يكون لها نتائج مضرة على السلم الاجتماعي. كما تعرف هناك العديد من المظالم والازمات.
ظهور الرئيس السابق واستمراره على الساحة، يفسر حالة من القلق والتربص وهو يفعل ذلك كمحاولة لإيصال رسالة بأنه مازال محركاً رئيسياً للأحداث. يعمل ذلك ليس فقط لإثبات ذلك لمن حوله او لأعدائه بل ايضا لاقناع نفسه هو بأنه مازال مهما. هذا امر غير غريب. فمن الصعب التخلي عن السلطة والتحكم المطلق على من حولك بعد ان كنت تتحكم بكل شيء ولمدة طويلة. لكن الحذر هو ان زيادة الظهور على الخط ومحاولة عرقلة مسيرة التغيير قد تؤدي إلى ردود فعل تحرق الجميع وقد تؤدي لا نزلاق وتردي في الوضع تضر اول ما تضر الرئيس السابق وأتباعه. ولكن دعني اعبر عن تفاؤلي هنا بان هناك بوادر انفراج في الموقف فيما يتعلق بالرئيس السابق ستتم قريبا.
فيما يخص الحكومة المناصفة بين طرفين سياسيين، وهي مثل كل أطراف الازمة وقطاعات الشعب تعيش في ظل تربص وقلق وهناك تردد في البدء بمبادرات كبيرة لعدم وضوح المستقبل. ولا تنسى ان الترتيب الحالي هو مؤقت لتحاشي تردي الأوضاع في اليمن وليس ترتيباً لبناء الوطن على المدى البعيد. وهنا أؤكد على ضرورة التصدى المباشر للأزمات والمظالم ولابد من الوضوح في الخطط التي تقدم لعلاج هذه الأزمات. اليمن بحاجة ماسة إلى قيادات ناضجة وواعية تلتف حولها فئات الشعب. الوقت ليس لصالحنا واستمرار هذا الغموض سيزيد من حدة المظالم وسيؤدي الى انفجار الوطن وتمزق أشلائه.
كما وأكرر دعوتي هنا الى كل قوى الشباب والثورة بضرورة تعزيز نقاء الثورة في البحث عن التغيير للأفضل والحذر من اللغة المسمومة التي بدأت تنتشر بين قوى الثورة الشبابية. لابد من تغيير لغة الخطاب المحنط الذي يركز فقط على تغيير «بقايا العائلة». يجب ان لا نلوث الاهداف النبيلة للثورة بتحويلها الى معركة عائلية قبلية مناطقية متخلفة. هذا الخطاب يعبث بدماء الشهداء ومعاناة المقهورين.
الثورة التي تستحق ان يلتف حولها الشعب هي تلك التي تهدف الى التغيير الشامل نحو الأفضل - نحو يمن حضاري حديث تحترم فيه حقوق المواطنة ويتجه فيه الانسان اليمني نحو تطوير حياته ومجتمعه بحرية. اما الأهداف التي تبحث عن تغيير قبيلة بقبيلة او جماعة بجماعة فإنها ليست ثورة بل هي مسرحية مؤلمة يقف وراءها منتفعون ليسوا اقل دموية وقسوة من العائلة المستهدفة ويكون الشعب فيها هو الخاسر الكبير.
على كل الأحرار والشرفاء رفض الانخراط بلعبة دموية ستخلق فراعنة جدداً. تغيير النظام بمختلف منظوماته المتخلفة (لا تغيير عائلة فقط) وبناء نظام ديمقراطي وطني مدني عادل هو ما خرج من اجله شباب الثورة. وعليه انصح الشباب ان لاتتنازلوا عن أحلامكم وأهدافكم النبيلة من اجل غد أفضل.
< قلت في تعليق لك على صفحة الفيس بوك، ان الجهل والقات والعصبية القبلية اهم مصادر ومعززات التخلف في اليمن في الماضي والحاضر. لابد من التعامل معها مباشرة. يتضح ان أحد جوانب المشكلات ثقافية نفسية وأنت أفضل من يصف الدواء ؟
هذه مشكلات معقدة ومتداخلة بتفاصيل المجتمع وتحتاج لجرعة قوية ومستمرة من الوعي والتعليم. ولكن في الاساس لابد ان يكون ذلك مدعوماً بوجود دولة قانون مدنية عادلة تأتي من الشعب وتحمي مصالحه.
فتصحيح قيم وعادات مجتمعية مثل هذه تحتاج لجهود فردية وجماعية على مستوى المواطن والدولة. الآباء والمدرسين. المؤسسات التعليمية والمؤسسات التثقيفية والاعلامية.
< خاطبت في موضع آخر الذين يتغنون بتعز او اي مناطق اخرى، وفضلت استخدام طاقتهم “المناطقية” في خدمة المدن والقرى عملياً، لماذا بدأت بتعز وكيف يمكن تقييم المناطقية والطائفية من ناحية نفسية؟
ربما بدأت بتعز لأني من محبي تعز، كثيرون وأصواتهم قوية او هكذا اعتقد. فقلت مناسبة ابدأ بأصحاب منطقتي حتى يسمعني الآخرون.
بطبيعة الحال عزيزي قد اتفهم لجوء بعض الناس للمناطقية. فربما يجدوا فيها الأمان والألفة ومحاولة تعزيز مكانة لهم او ربما دفاعاً من أخطار يدركون أنها تهدد هويتهم. وقد يكون محاولة للبحث عن دعم نفسي او معنوي يساعدهم على مواجهة اي مظالم او تهميش من جهات او فئات او مناطق أخرى أو من مراكز السلطة.
لكن لهذه القيم المناطقيه والطائفيه آثار سلبية بالغة ليس فقط على نفسية الأفراد بل وعلى صحتهم وتكاملهم في المجتمع ومشاركتهم في الإنتاج وسهولة انزلاقهم للاستقطاب. هناك العديد من البحوث التي أجريت في الغرب توضح أن التمييز بين المواطنين له آثار سلبية بالغة الخطورة على الصحة النفسية وعلى الإنتاج والمواطنة والسلم الاجتماعي.
لعل أكثر الأعباء التي خلقتها مرحلة الرئيس السابق هي تعزيز قيم المناطقية والمذهبية والعائلية وبشكل مباشر. على سبيل المثال اذكر في السبعينات في الحديدة عندما كنا أطفالا كيف كانت تلك المدينة قمة في النشاط والحركة والنمو. كانت احد المستفيدين من نزوح رأس المال من الجنوب سابقاً بعد التأمينات التي حدثت هناك. كان النشاط التجاري في قمته. بدأ التدهور وبشكل واضح في الثمانينات ثم التسعينات.
كان آباؤنا يقولون لنا ان هناك خطط متعمدة لتحويل رأس المال والنشاط التجاري إلى يد فئة معينه. بدأ وضع معظم التجار يتدهور وبدأت حالات الإفلاس تنتشر بشكل مخيف. الضرر بدأ (مطلع الثمانينات) كما اذكر عندما تم منع استيراد اي بضائع إلا بترخيص من وزارة التموين في صنعاء وكانت تلك بداية مرحلة خنق العمل التجاري في اليمن. حيث مكنت هذه المركزية وجوه جديدة للدخول على الساحة التجارية والاقتصادية على حساب التجار المهنيين.
الكثير يعرفون ذلك وخاصة التجار في السبعينات والثمانينات والتسعينات. وخاصة اولئك الذين قدموا من المناطق الجنوبية. المأساة ان هذه الخطط التدميرية والتمييزية القبيحة كانت متعمدة ومن مناطق القرار العليا.
بالمناسبة خبر قرأته مؤخرا يؤكد مثل هذا النمط المنظم من التمييز والظلم. قرأت ان هناك وثائق تم اكتشافها في وزارة الاشغال العامة تشير إلى أن 90 % من المقاولين المصنفين في الدرجة الأولى والذين يمكن ان يحصلوا على امتيازات في مناقصات الوزارة هم من مناطق معينة ومن قبيلة معينة. بطبيعة الحال اتمنى ان لايكون هذا دقيق. ولكن اذا كان صحيحاً فهو دليل آخر على زمن العفونة الذي عاشته اليمن.
أعود لتأثير المناطقية، فعلى عكس الذكرى التي تركها الشهيد إبراهيم الحمدي بين المواطنين هي مناخ الوحدة الوطنية الذي انجزه في تلك المرحلة. وربما ان اكبر ضرر تركه حكم الرئيس السابق هو التشرذم والانقسام بين فئات الشعب سواء مناطقيا او قبليا او مذهبيا. ارث موجع لاشك.
لكن الشعب اليوم وعى الدرس وأتوقع مراقبة شديدة للنظام الحالي وأي نظام قادم ورصد أي تحركات طائفية او مناطقية. لا اعتقد ان الجيل القادم سيقبل هذه الممارسات الظالمة. وعلى الصحافه الاستقصائيه ان تلعب دورها الوطني والاخلاقي في التوثيق والكشف عن هذه الممارسات. على اليمنيين ان يعرفوا ان العالم يراقب ما يدور في اليمن على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي. على اليمنيين ان يكونوا واضحين في رفضهم لأي ممارسات للظلم ولأي شللية او مناطقيه في اي مكان ومن اي مسؤول.
< في تعليق لك قلت “رغم بساطة الخطوات والمواقف التي يقوم بها أ. باسندوة (السيارة، التلفون، المكنسة، والدموع الخ) إلا أن رمزيتها بالغة للغاية وستكون لها آثار عميقة في الوجدان الشعبي لسنوات طويلة. احيي الرجل بشدة وأرجو أن تتعزز هذ الخطوات الرمزية بقرارات مؤثرة في المستقبل. كيف نفسر ذلك من ناحية علمية؟
هذه الرمزيات هامة لتسهيل التواصل مع الناس وخلق مناخ من الالفة والاقتراب من هموم الشعب. لكن الرمزيات وحدها لا تكفي. لابد أن تتكامل مع جهد عملي ونتائج ايجابية ملموسة في حياة الناس. وإلا فإن هذه الرمزيات قد تفقد أي شخص مصداقيته. من اجل هذا أشرت في ملاحظتي حول باسندوة اهمية ان تتعزز هذ الخطوات الرمزية بقرارات مؤثرة في المستقبل.
< برأيك كيف يمكن للحكومة الـتأثير باتجاه المشاركة السياسية وعدم الاعتمادية والمثابرة ونبذ العنف وتقديس العمل وتعزيز الوحدة الوطنية، خاصة وأن أمامها مشكلات متعددة القضية الجنوبية ومشكلة صعدة والقاعدة ، وإنجاز الحوار وصياغة الدستور؟
كما ترى فإن القائمة طويلة للمهام الملقاة على عاتق الحكومة. ولكن هذه القائمة هي ايضا تهم كل مواطن وكل مؤسسة تعليمية وتثقيفية وكل مراكز القوى في الوطن. فالبلاد مثل السفينة غرقها سيغرق الجميع. هناك قيم لابد ان تتأصل في حياتنا اليومية مثل الإخلاص والمثابرة والتعايش مع الآخرين اي كانوا.
هذه قيم مجتمعية هامة لبناء مجتمع حضاري ناجح. تأصيل هذه القيم هي مسئوليتنا جميعا كأفراد ومؤسسات كل في موقعه. اما عما انصح به الحكومة الحاليه واي حكومة قادمة فهو ان تدرك انها هنا لخدمة الشعب. وان المواطن هو الاساس. المواطن هو المالك الشرعي للسطلة مهما حاولت مراكز القوى التسلط عليه وقمعه او اجباره على القبول بالأمر الواقع.
< فيما يخص اليمن هل نستطيع تحديد الشخصية القادرة على قيادة مشروع سياسي ينهض بالبلد، كيف تراها من ناحية سيكولوجية هل للأمر علاقة بمنطقة معينة بفئة معينة حيث تكون قادرة على استيعاب تطور العالم من حولنا؟
القيادة الناجحة هي تلك التي تؤمن برسالتها في خدمة الشعب وحماية مصالحه وهي تلك التي تحمس وتحرض الشعب على العمل والإنتاج وهي تلك التي تخلق عند الناس التفاؤل الواقعي والأمل بأن الغد أفضل. هي تلك القيادة المخلصة والامينه والتي تؤمن بمبدأ الشفافية والعدالة. هي تلك التي تقدم القدوة في الإخلاص والنزاهة والولاء للشعب.
ليس هناك اي ادلة تدعم تحديد القيادة بفئة ما او بلد ما. القيادة هي مهارة يمكن تعلمها والتمرس عليها والنجاح فيها. وقد يكون هناك استعدادات نفسية وبيولوجية يمكن ان تهييء الشخص للقيادة الناجحة ولكن هذه الاستعدادات هي ثانوية.
هناك قيادة ظالمة ومعطِّلة وقيادة عادلة وفاعلة. وبالمناسبة كلا النوعين من القيادة قد يأتي بإسلوب ديمقراطي او انقلاب عسكري. اذ أن هناك أمثلة في التاريخ على قيادات اجتماعية عادلة لم تأت عن طريق الانتخابات مثلما ان هناك امثلة عن قيادات فاشية وقاتلة وصلت إلى مواقعها بإسلوب ديمقراطي.
والقيادات الناجحة تقاس بكونها قدوة للآخرين في المثابرة والإنتاج واحترام قيم العمل والإخلاص والأمانة والوفاء لمن تقودهم.
< البعض يضع اسمك ضمن قوائم مرشحي الرئاسة القادمين هل ستستجيب لذلك، وهل تفكر بالعودة إلى اليمن؟
هذا كلام كبير ولكن شكرا على هذه الثقة. لا ارى ان مكاني هو في السياسة. لكنني دائما على استعداد لخدمة شعبي في السياق الذي يمكن ان يساعده على التطور والنماء سواء من خلال دعم مختلف الهيئات التعليمية والعلمية كالجامعات او من خلال مساعدة الشباب الذين لديهم طاقات على التفوق والنجاح.
كما تعرف هناك العديد من البرامج التي تبنيناها ونفذناها في عدد من المدن اليمنية ونود ان نوسع أفق هذا الدعم وان نجد في الهيئات الحكومية والشعبية شراكة فعلية لتسهيل مزيد من الدعم والتلاحم مع أبناء شعبنا.
وهناك أخبار مهمة نتوقع الكشف عنها خلال الشهور القادمة فيما يتعلق بتأسيس شراكات جديدة علمية وأكاديمية وكذلك اقتصادية وإنسانية بين هيئات دولية ومنظمات محلية نعمل الآن على بلورتها.
< سمعنا عن انسحابكم من اجتماع حول اليمن يعقد في جامعة هارفارد بعد أن كنتم شاركتكم في تنظيمه وكان من المتوقع أن تقدموا محاضرة ضمن برنامجه ما سبب انسحابكم؟
من المهم أولا أن اعبر عن احترامي للجهود التي بذلت من اجل تنظيمه. كانت هناك بعض الأخطاء في اجتماع جامعة هارفارد وهذا أمر طبيعي لكن كانت هناك سلبية في التعامل مع هذه الأخطاء. هذه السلبية هي التي قد تؤدي إلى أضرار أكثر من فوائد وخاصة على مناخ التعايش بين المغتربين خارج اليمن.
تحاشيا للمزيد من الضرر اقترحت أن يتم تأجيل موعد الاجتماع حتى يتم تصحيح الأخطاء والتخطيط الأفضل له وحتى نتحاشى أسباب الفرقة والريبة والشكوك التي سرت حول مصادر دعم الاجتماع. في كل الأحوال فإنني اشكر القائمين على الاجتماع وأرجو أن يتم تلافي أي أضرار قد ينتج عنه.
كنت ومازلت أتمنى أن يكون المغتربون اليمنيون عامل قوة ودعم لوطنهم. ولن يتم ذلك الا اذا توحدوا وقدموا أنموذجا في التعايش والتلاحم وانكار الذات.
---------------
السيرة الذاتية للبرفيسور مصطفى العبسي:
- حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم العصبية وفي علم النفس الإكلينيكي والطب السلوكي.
- أستاذ الطب السلوكي وعلم النفس والعلوم العصبية وأستاذ علم الوظائف الحيوية والطب العائلي كلية الطب جامعة منسوتا الولايات المتحدة الأمريكية.
- ولد البروفيسور مصطفى العبسي في منطقة الرام حيفان محافظة تعز في الجمهورية اليمنية في عام 1962.
- تلقى البروفيسور العبسي تعليمه الأولي في مدينة الحديدة اليمن
- شهادة البكالوريوس الممتازة في علم النفس مع مرتبة الشرف – جامعة القاهرة 1985.
- أسس أثناء تواجده في القاهرة أول نواة للبحث العلمي في الطب السلوكي من خلال بحث التخرج في مجال القلق وامراض الجهاز الهضمي.
- كان له نشاط طلابي وثقافي وعلمي بارز بين اوساط زملائه العرب في الجامعات المصرية.
- درجة الماجستير – الولايات المتحدة. دراسة الماجستير ركزت على العلاقة بين الألم والقلق النفسي ونشرت في المجلة العلمية الألم - وهي المجلة الدولية الرئيسية للمنظمة الدولية للدارسات الألم في عام 1991.
- درجة الدكتوراه– جامعة أوكلاهوما- الولايات المتحدة. بحوث الدكتوراه ركزت على استجابات القلب والشرايين للضغوط النفسية عند المصابين بارتفاع ضغط الدم، وكذلك آثار الضغوط الإنفعالية على وظائف الغدد الصماء وانشطة القلب والشرايين.
- قاد وأسس العديد من المراكز العلمية والمعاهد الاكاديمية بما فيها معهد دولوث للبحوث الطبية ومعامل الطب السلوكي في جامعة منسوتا والبرنامج الدولي لأبحاث القات. أحد مؤلفاته كتاب بعنوان ‘الضغوط النفسيه والإدمان: عوامل بيولوجية وسيكولوجية والذي نشر في عام 2007 عن دار الزافير واكاديمك برس للنشر والذي يعتبر أهم كتاب علمي حول الموضوع.
الجوائز والتقديرات العلمية
- جائزة هيربرت واينر لعام 2004 – منظمة الطب السيكوسوماتي
- جائزة نيل ميللر في الطب السلوكي لعام 2000 – أكاديمية الطب السلوكي للبحوث
- جائزة البحوث الدوليه في اوكلاهوما (1995)
- جائزة التفوق التقديرية للدراسات العليا (1994)
- جائزة التفوق في التقديرات من جامعة أوكلاهوما (1991-1995)
- جائزة الأداء من عيادة العلاج العائلي في جامعة ولاية أوكلاهما (1994)
- جائزة البحوث الإكلينيكية والتطبيقية (1993)
- زمالة من شبكة “الجسم والعقل” منظمة مكارثر (من 1994 إلى 1996)
- زمالة برنامج توماس جيفرسون (من 1991 إلى 1994)
- زمالة برنامج فلبرايت الأمريكي (من 1989 إلى 1990)
- قائمة العمداء الشرفية (للمتفوقين)
المراكز العلمية والأكاديمية
- رئيس معهد دولوث للبحوث الطبيه- جامعة منسوتا
- مدير معامل الطب السلوكي- كلية الطب - جامعة منسوتا
- أستاذ الطب السلوكي وعلم النفس–كلية الطب - جامعة منسوتا
- أستاذ علم العقاقير - كلية الطب - جامعة منسوتا
- أستاذ علم الوظائف الحيويه – قسم علم الوظائف الحيوية- كلية الطب - جامعة منسوتا
- أستاذ الطب العائلي– قسم الطب العائلي- كلية الطب - جامعة منسوتا
- استاذ العلوم العصبيه – قسم العلوم العصبيه- كلية الطب - جامعة منسوتا
- أستاذ ومشرف رئيسي للدراسات العليا في التخصصات التالية: العلوم العصبيه، علم الوظائف الحيوية، علم النفس، العلوم الطب-بيولوجيه، علم الوبائيات.
- البورد الإمريكي مجال علم النفس الإكلينيكي والطب السلوكي في أمريكا وكندا
- ليسانس الممارسة كخبير إكلينيكي في علم نفس وطب سلوكي في ولاية منسوتا – الولايات المتحدة
- مستشار لمنظمات علمية ومهنية في كل من كندا وامريكا وبريطانيا والمانيا وسنغافورا وجمهورية التشيك.
نقلاً عن صحيفة الجمهورية