رسالة إلى المهدي المنتظر!
ربما قلتم إنها رسالة مجنونة تُوجَّه إلى سراب في سرداب، ربما قلتم إنني شاعر يتحدث إلى الجن، ويسامر الغِيلان التي علقت بذاكرته مع بقايا الرمل الذي كان يُمرِّغ روحه بذراته في مساءات "صحراء صيهد" الموحشة، قبل أن ينتقل إلى ضفاف التايمز والسين!
قولوا ما تشاءون، شاعر أو مجنون، لكني لن أتوجه بهذه الرسالة لأحد بعينه، سئمت مخاطبة الأعيان، مللت الحديث إلى الكبار، ومخاطبة من كنت أخاطبهم ممن تعرفون.
سأتوجه برسالتي للمهدي المنتظر الذي يقول الحمام الزاجل إنه دخل السرداب، وترك حصانه ينتظره منذ قرون. سأخاطب خطيب الجمعة الذي تخلف كثيراً والمصلون ينتظرون صعوده المنبر، سأخاطب راعياً قديماً ضيع أغنامه، والذئب يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه، سأوجه الرسالة لأب ترك أسرته، وذهب مع الريح إلى حيث لا يعلم أحد، أو لمزارع غادر حقول العنب والبن، وتخلف عن عمله الذي لا يجيد سواه ثم ذهب للبحث عن حقول النفط ومناجم الذهب، تاركاً أرضه لعواء الغيلان وهوام الأرض، دون أن يحصل على أيٍ من الذهب الأسود أو الأصفر.
يا سيدي، خاطبناك في اليقظة، وأرسلنا لك تمنياتنا بطول السلامة، وأرسلنا مع رسائلنا دموعنا وأوجاعنا علك تكون في صورة ما يدور، خاطبناك في أحلامنا، ورأيناك تمتطي حصاناً أدهم، تشق به ظلمات السنين، لتنقذ تلك المضارب من هجمات هولاكو الذي دمر بغداد، وجفف الفرات، وأحرق النخيل.
خاطبناك تلميحاً، وناديناك تصريحاً، ووظفنا الاستعارات والمجاز، علَّ المعاني تصل، وعلَّ المفاهيم تبلغ سمعك وبصرك والفؤاد. ذهبنا نهز فيك روحك، نخاطب فيك قلبك، نخوتك، غيرتك، دينك، عروبتك، وكل ما يمكن أن يصل إليه الخطاب من مدارك وأحاسيس.
بكل لغات الأرض كلمناك حتى كلّت الكلمات، وأُبهمت المعاني، وبُحت الأصوات، وأنت تبدو غارقاً في سديم الأحلام، تسمع ولا تسمع، ترى ولا ترى، تنام ولا تنام، وتصحو بلا انتباه، فيما نحن ننتظرك منذ عهود طوال.
لو أنك فقط أيها المهدي المنتظر أبلغت ملايين المنتظرين عند الحصان أنك لن تجيئ، لو أنك أيها الراعي البعيد عن مرعاه أبلغت الرعاة أن تتدبر أمرها، وتحمي المرعى من غوائل الذئاب، لو أنك أيها المزارع قلت للفلاحين، اسقوا زرعكم، لا تنتظروني، لو أنك أيها الأب قلت للأبناء: لقد مت منذ زمن طويل، فكُفُّوا عن الانتظار، لو أنك أيها الجندي ألقيت سلاحك، وتركت الفرصة لجندي آخر يتقدم للدفاع عن الوطن، ولو أنك أيها الإمام أبلغت المصلين أنك لن تؤمهم للصلاة!
لو فقط تتكلم، لو فقط تتألم، لو فقط تشير بإصبعك، لو بطرفة عين، لو ترسل إشارة إن عزت العبارة، لو فقط تُلمِّح إذ لم تُصرِّح .
كان سقراط يقول "تكلم كي أراك"، والملايين يقولون: تكلم كي نراك ونسمعك، كي نشعر أنك لا زلت على قيد الحياة، أنك قادم على جناح موجة تسرع بك أيها السندباد إلى حيث ينتظرك الملايين على الشواطئ المعلقة في سديم الأمنيات.
تكلم، قل كلمة واحدة، قل إنك ستعود، قل إنك لن تعود، قل إنك لا تريد أن تعود، قل إنك لا تستطيع أن تعود، قل شيئاً أيها الصامت الذي حيَّر المتكلمين.
لا يجوز أن تُحرق روما وأنت تكمل قصيدتك التي لا نهاية لها يا نيرون، لا يصح أن يموت الناس جوعاً وماري أنطوانيت تتساءل لم لا يأكلون البسكويت، ولا يصح أن يظل الجندي في أرض المعركة باسلاً يواجه الموت، فيما يرسم قائده خريطة المعركة من قصره الجديد الذي اشتراه في البلاد البعيدة.
أيها المهدي المنتظر إننا معك نعيش حالة برزخية بين النوم واليقظة، بين الموت والبعث، بين الماء والظمأ، نحن بك معلقون بين اليأس والرجاء، نكتب رسائلنا لك وندسها في شقوق صخرة على باب السرداب، ونمكث عند الحصان في انتظار جواب لا يجيء!
هل جربت أيها الغائب الحاضر كيف يكون الحال عندما تبلع قطعة زجاج، تقف وسط الحلق، لا أنت تقدر على بلعها تماماً، ولست قادراً على لفظها خارج الحلق؟!
وضع مميت، لا قطعة الزجاج بُلعت، ولا هي لُفظت، ولكنها تكمن هناك في المنطقة الكامنة بين المريء والحلقوم، بين الصمت والكلام، بين الموت والحياة.
ويل لنا منك، ويل لك منا، ويل لك من سردابك، ويل لك من حصانك المنتظِر على باب السرداب، ويل لك ممن هم حولك، ويل لك من التاريخ، وويل لك من الله أيها المهدي الذي ننتظر "رجعته" فيما هو ينتظرنا داخل السرداب.
أما نحن فلا خيار أمامنا بعد تلك "الغيبة الكبرى" إلا أن نكف عن الانتظار، سنمحو كل النذور والمحوات، كل الرسائل والخطابات، كل التصريحات والتلميحات، سنلملم كل جراحاتنا وصلواتنا ودموعنا ودمائنا، وسنحرق رسائلنا التي كنا ندسها لك في شقوق المكان، وثقوب الزمان، وسنترك باب هذا السرداب، وننطلق على صهوة الحصان، متوكلين على الله، وسنكون نحن "المهدي الحاضر" الذي لا يغيب في السراديب والقصور.
"ويومئدٍ يفرح المؤمنون..."