الوعي التاريخي وتجذير الانتماء الوطني

المجتمع اليمني واحد من أعرق المجتمعات المتجذرة حضاريا، فهو يزخر بموروث حضاري مادي مبهر، ويمتلك تاريخا إنسانيا باذخا، صنعه الإنسان اليمني في مختلف حِقَب الزمن وعصوره، خاصة حضارتي سبأ وحمْيَر الممتدة عبر آلاف السنين.

هذا التاريخ التليد يفترض به أن يكون حاضرا في الوجدان الشعبي اليمني الجمعي، وأن لا يبرح مخيلة الأجيال اليمنية، ذلك أن الوعي به واستحضار إشراقاته يُجذّر الانتماء الوطني الجامع، ويُوثِق عرى المجتمع، ويفتلها، ويحافظ على كينونة الأمة اليمنية وواحديتها، السياسية والجغرافية والإنسانية.

ولو أن الوعي بتاريخ اليمن ظل حاضراً في أوساط اليمنيين عموما لما سمعنا بالنزعات الانفصالية وموجات التنكّر لليمن الواحد، وهو الوعاء الجامع لأبناء العمومة والأرومة الواحدة، ولما احترب الأهل والأقارب استجابة لنزوات حكم آنية زائلة، ولما كان اليمني عُرضة للاستقطابات الداخلية والخارجية.

وفي هذا السياق، فإن الوعي بتاريخ الدُخلاء على اليمن، لاسيما السُلالة الهاشمية العنصرية، واستحضار جرائمها في الوعي الجمعي اليمني، واجب وطني، وذلك لتحصين المجتمع اليمني وتمنيعه، والحيلولة دون استغفاله مرة أخرى من قبل الكيان العنصري الهاشمي، والزج به في أتون حروبه السُلالية بما يملكه من محركات دينية عنصرية إرهابية.

والحقيقة المرة هنا أن الأجيال اليمنية التي أعقبت ثورة 26 سبتمبر الخالدة نأت بنفسها عن قراءة التاريخ اليمني، زينه وشينه، ولو أنها وعت على الأقل التاريخ اليمني المعاصر، تاريخ الحركة الوطنية اليمنية ونضالاتها خلال القرن العشرين، لما كنا نعيش هذا الواقع المرير ونعايش هذا الخراب المنتشر في كل ربوع اليمن، بعد عودة السلالة الدخيلة لفرض الولاية الهاشمية الإرهابية ونظرية حصرية البطنين العنصرية.

هذه العودة كانت بلا ريب المحصلة الطبيعية لانعدام الوعي التاريخي بجرائم السلالة، والجهل المُريع في معرفة ماهيتها وامتداداتها الإجرامية؛ تلك الأغوار العميقة من الجهل بهذه السلالة لن يُسبرها سوى الوعي بتاريخ اليمن وتاريخ الجريمة الهاشمية على حد سواء.

ومن باب التذكير والإعتبار، فإن كل الأمم التي رافق ماضيها جرائم إرهابية عنصرية، عملت على جعل تلك الجرائم حاضرة بشكل دائم في الوجدان الشعبي الجمعي، ونقشتها في ذاكرة الأجيال المتعاقبة.

فالنازية مثلاً، ظلت حاضرة في كتب التاريخ وفي متناول الكُتّاب والمؤرخين بشكل مستمر، ما جعلها حركة مُجرَّمة مجتمعيا نِتاج الوعي بأفعالها الشائنة؛ الأمر كذلك في المجازر التي تعرض لها الأرمن من قبل العثمانيين، تلك المجازر لم تعد حاضرة في الوعي المجتمعي المحلي فقط، بل في الوعي المجتمعي العالمي ككل.

في حين أن مذبحة المطرّفية التي راح ضحيتها أكثر من 100 ألف يمني آمن مُسالم والتي ارتكبها المجرم عبدالله بن حمزة لا تزال تحتفل بها السلالة الهاشمية حتى اليوم عن طريق تقديس سفاحها وتداول مؤلفاته الإرهابية، في ظل عقل يمني تائه، حائر وغير واعٍ بماضيه وأحداثه الأليمة.

خلاصة القول، إن غياب قيمة الوعي التاريخي في المجتمع اليمني أسهم بقوة في استنبات المشاريع الخارجية في الوجدان الشعبي الجمعي، هذه المشاريع تهدد الوجود اليمني برمته، دولة وهوية وكيانا وطنيا جامعا.

وعليه فإن كل يمني مؤمن باليمن ملزَم بإعادة قراءة تاريخه وتاريخ السلالة الدخيلة، ونشر هذا التأريخ لزيادة منسوب الوعي الوطني المؤدي إلى تجذير الانتماء والولاء لليمن أولاً وأخيراً، وتمنيع الجسد اليمني من الانزلاق إلى مهاوي المشاريع السلالية أو الوقوع في شراك الاختراقات الخارجية.

وهذا ما بدأه حِراك الأقيال الوطني منذ سنوات، مُعتبِراً أن من خوارم المروءة الوطنية تجاهل هذا التاريخ أو التقليل منه بادعاء أنه حدث مضى ولن يعود، أو حصر قراءته والحديث عنه في الدارسين له والضليعين في أسفاره دوناً عن غيرهم من المهتمين به.

إن الوعي بتاريخ اليمن وأعدائه هو قيمة إنسانية بحد ذاتها، جوهرها حفظ ذاكرة الأمة وهويتها الثقافية والحضارية؛ واللاوعي به بلا شك قطيعة مُرعبة، وجفوة مُهلكة، مؤداها ذاكرة تاريخية معطوبة، وأجيال متعاقبة مشروخة الولاء والانتماء والهوية الوطنية الحضارية.

مقالات الكاتب