حربا دموية شرسة في طريقها الى اليمن
عندما تغلق الولايات المتحدة الامريكية سفارتها في صنعاء الى اجل غير مسمى، وتطلب من رعاياها المغادرة فورا، وتحذو حذوها معظم الدول الاوروبية الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا وايطاليا، فان هذا يعني ان حربا دموية شرسة في طريقها الى اليمن، وان مبادرة السلام الخليجية التي اطاحت سلميا بالرئيس علي عبد الله صالح واتت بنائبه عبد ربه منصور هادي قد انهارت كليا وتحولت الى رماد.
امريكا متورطة في حرب ضد الارهاب في اليمن، مثلما هي زعيمة الرعاة للمباردة الخليجية والانتقال السلمي للسلطة، وانسحابها بهذه الطريقة السريعة، دبلوماسيا على الاقل، وبعد استيلاء “انصار الله” الحوثيين على السلطة، وحلهم البرلمان وعزلهم للرئيس، وتغطية نفسهم تشريعيا من خلال اعلان دستوري، يعني انها “غسلت يديها” من اليمن، ويأست من اصلاح اوضاعه، وتركت ابناءه يواجهون مصيرهم وحدهم، تماما مثلما فعلت الدولة الخليجية الاخرى.
لا نعرف ما اذا كانت الولايات المتحدة ستنسحب ايضا من الحرب التي تشنها ضد تنظيم “القاعدة” من خلال طائراتها بدون طيار (درونز)، ونسأل ايضا عن “شرعية” هذه الحرب بعد انهيار الحكومة اليمنية التي وفرت الغطاء القانوني لها؟
من الصعب التكهن بالخطوة الامريكية المقبلة، فالادارة الامريكية تقف موقف المتفرج من احداث اليمن، فالادارة تنظر للحوثيين نظرتها نفسها الى “الدولة الاسلامية” او جبهة “النصرة”، اي انها لا تعتبرها خطرا على مصالحها يتطلب تجييش الجيوش، وارسال الطائرات لقصفهم، على غرار ما تفعل حاليا في العراق وسورية، ولكن هذا الموقف السلبي في نظر الكثيرين من اليمنيين قد يتغير في حال انهارت المفاوضات النووية مع السلطات الايرانية.
اليمن بات بلا رئيس ولا حكومة ولا برلمان، ويعيش انقسامات حادة بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب، وبين غلاة السنة وغلاة الزيديين، ونخبته السياسية عاجزة ومفلسة، وثورته تعرضت لعملية اجهاض تنطوي على الكثير من القسوة، واحلام الشعب اليمني في الديمقراطية والرخاء والتعايش والوحدة الوطنية واجهت وتواجه انتكاسة كبيرة.
السيد جمال بن عمر المبعوث الاممي ينفخ في قربة مقطوعة، يخرج من اجتماع مع القوى اليمنية ليدخل اجتماعا آخر، ونتيجة هذه الاجتماعات واللقاءات المستمرة منذ اكثر من عام الفشل التام، وحتى اذا توصلت هذه الاجتماعات الى اتفاقات، فان حظوظها في التطبيق على الارض دون الصفر.
“انصار الله” باتوا القوة المسيطرة على معظم اليمن الى جانب العاصمة صنعاء، ويحتلون القصر الجمهوري ويسيطرون على مؤسسات الدولة واجهزة الاعلام، وقوة عسكرية ضخمة مدعومة ببعض وحدات الجيش اليمني الموالية للرئيس علي عبد الله صالح، بينما لا تملك القوى القبلية والمدنية المعارضة لها غير اصدار البيانات المنددة، واذا امتلكت سلاحا فهو سلاح فردي في معظم الحالات.
اليمن الآن يقف امام ثلاثة خيارات رئيسية يمكن تلخيصها كالآتي:
اولا: التسليم بالامر الواقع والقبول بالهيمنة الحوثية والتعايش معها حقنا للدماء والحفاظ على ما تبقى من الدولة وهيبتها ومؤسساتها.
ثانيا: مقاومة التيار الحوثي عسكريا، والاستعانة بالقوى الخارجية خاصة المملكة العربية السعودية ومن خلالها الولايات المتحدة الامريكية.
ثالثا: الاستمرار في الحوار مع التيار الحوثي على امل التوصل الى تسوية وسط تحقيق التعايش والمشاركة في السلطة بالتالي من قبل كل الاطراف او معظمها.
ترجيح احد الخيارات ربما يكون عملية غاية في الصعوبة والمغامرة، لان كل واحد فيها له عيوبه ومزاياه، وبعضها بلا مزايا على الاطلاق في نظر الاطراف المتصارعة، كل حسب موقفه، فما يقبله تيار “انصار الله” يرفضه التيار المقابل الذي يعتبر وجودهم في صنعاء اغتصابا للسلطة.
القبول بهيمنة التيار الحوثي يعتبر استسلاما، ومقاومتها ربما يكون عملية مكلفة ماليا وبشريا في بلد منهك مثل اليمن يقع في دائرة الافلاس.
الاهمال الدولي، والخليجي منه بالذات لليمن، والتآمر عليه ووحدته واستقراره في معظم الاحيان هو الذي اوصل هذا البلد صاحب الجذور الحضارية العرقية واهله الطيبيين الى الحفرة العميقة التي يعيش في ظلها الآن.
لا نملك حلولا نطرحها غير تكرار الاسطوانة المشروخة حول ضرورة الحوار والتعايش والبعد عن الاقتتال المذهبي والمناطقي، ولكن ما يمكن ان نتكهن به هو ان اليمن سيظل يدور في هذه الدائرة المفرغة من العنف وعدم الاستقرار طالما لا يشكل خطرا مباشرا على جيرانه، وعندما ينتقل الى مرحلة تشكيل هذا الخطر، فان الظروف ربما تتغير، ولا نستبعد تدخلات اقليمية ودولية عسكرية على وجه الخصوص.
السعودية الجار القوي لليمن ارتكبت اخطاء جسيمة في اليمن فقد انقلبت فجأة على حلفائها في حركة الاصلاح السلفية المهيمن عليها من قبل الاخوان المسلمين، ودون ان تكون على علاقة جيدة مع حركة “انصار الله” الحوثية الشيعية المدعومة من ايران، والاهم من ذلك ان حليفها التقليدي الرئيس علي عبدالله صالح سار على عكس رغبتها وتحالف مع غريمها الحوثي، وعلاقته بالمملكة كانت شخصية ومحصورة في العاهل السعودي الراحل عبدالله بن عبد العزيز وجناحه، وليس في مؤسسة الحكم السعودي.
العاهل السعودي الجديد سلمان بن عبد العزيز منهمك حاليا في ترتيب بيته الداخلي كأولوية مطلقة، وربما يحتاج الى وقت طويل حتى يلتفت الى الملف اليمني، اما الولايات المتحدة فمنشغله في حرب ضروس ضد “الدولة الاسلامية” ولا نعتقد انها مستعدة لخوض حرب اخرى في اليمن ضد الحوثيين الى جانب حربها ضد تنظيم “القاعدة”.
اليمن، وباختصار شديد مقدم على ايام صعبة والانهيار على الصعد كافة هو عنوان المرحلة المقبلة، نقولها بكل الم وحسرة نحن الذين نحب هذا البلد واهله الشرفاء الطيبيين واصل العرب والعروبة.