دين التقيّة: سرّ بقاء الإمامة الزيدية من الرسي إلى الحوثي

إحالة:

انتهجت أئمة الزيدية منهج الفرق الإمامية في استخدام التقيّة حال ضعفها، فكانت من أخطر فرق التشيع مكرًا وخداعًا للمسلمين.

الدكتور حمود الخرام | كتاب عقائد أئمة الزيدية في اليمن 

مدخل عام 

في شوارع صنعاء ومناطق الاحتلال الحوثي، تتردّد خطب مليئة بالهجوم على الخلفاء أبي بكر وعمر، وسبٍّ علني للصحابة، مع ترويج خرافات أئمة الزيدية، في مشهد لم يكن أحد من هؤلاء يجرؤ على إظهاره قبل عشر سنوات، بل أقل، حين كانوا يتظاهرون بالابتسامة، ويردّدون عبارات السلام والتعايش، ويتذلّلون للناس بشكل مبالغ فيه وغريب.

لكن ما إن تمكّنت العصابة حتى كشّرت عن أنيابها، وأعادت إنتاج خطاب أئمة الزيدية، وفرضت معتقداتها على المجموع السني، مستندة إلى نصوص وفتاوى الفقه الزيدي التي شرعنت للكذب والتلون تحت مسمى التقيّة.

في الفكر الزيدي الهادوي، التقيّة ليست "رخصة فردية" لحماية النفس كما هو معروف في الفقه الإسلامي العام، بل نظرية حكم وأداة بقاء، فعبر قرون، أدارت بها السلالة الهاشمية لحظات ضعفها وقوتها: تخفت حين تُهزم، وتتقمص خطابا تصالحيا مراوغا، وتظهر سافرة عند التمكّن، متكأة على ترسانة فكرية من التكفير والخرافات وأدوات القهر.

"التمسكن حتى التمكّن" ليس فقط مجرّد مثل دارج، بل خلاصة لتجربة زيدية ممتدة في شرعنة وممارسة التقيّة: انحناء في زمن الضعف، اختراق للسلطة القائمة، ثم سيطرة دامية عند اللحظة المناسبة، وهو ما قررته كتبهم الأصلية، من الأحكام للكاهن الرسي، إلى المجموع والمنتخب والشافي، وصولًا إلى ملازم الصريع حسين الحوثي، ولهذا، كان كل سقوط لمشروعهم تتبعه عودة، وإن تأخرت.

التأصيل النظري للتقيّة لدى الزيدية

التقيّة ليست مفردة عابرة في الفكر الزيدي، بل ركن أصيل من أركان وجوده، فقد امتلأت مؤلفات أئمة الزيدية بالنصوص التي تُشرعن الكتمان والمراوغة، وتجيز إظهار الولاء للخصوم إن اقتضت المصلحة، على أن يُبطن الولاء الحقيقي لمشروع "الولاية"، ومن تلك النصوص الصريحة التي تؤسس للتقيّة قول الكاهن يحيى الرسي طباطبا "والتقية جائزة فيما حمل الناس عليه وهم له كارهون".

وقال الكاهن القاسم العياني في (مجموعه ص 419): وهو يتكلم عن بيعة علي بن أبي طالب لأبي بكر رضي الله عنهما: «إن علي بن أبي طالب وسعته التقية، كما وسعت رسول الله ﷺ.»

وهو نص يقدّم أخطر ما في التقيّة: تحويل البيعة – ركن الشرعية السياسية في الإسلام – إلى مجرد "خدعة" وصورة من صور النفاق.

وقال الكاهن عبد الله بن حمزة كما في مجموع رسائل المنصور، ص 357: في إجابته عن مسألة الرواية في صلاة علي بن أبي طالب خلف أبي بكر وعمر:

«إن الصلاة خلفهما ليست بأعظم من البيعة لهما، فلو دلت الصلاة على الترضية دلت البيعة على الصحة، وعندنا ان البيعة لهما كانت على وجه الإكراه، والصلاة خلفهما كانت على وجه التقية".

وورد عن محمد عبد الله عوض وهو احد فقهاء الزيدية في كتابه (لسان الحكمة ص 1817: «التقية قد جاء بها القرآن في قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾، وقال في ثمار العلم والحكمة ج3 ص 204 "تجوز التقية لحُجَج الله على خلقة كالأئمة، وللإمام تأخير البيان لبعض الاحكام الشرعية الى اخر الوقت لخوفه".

ونسب في نفس الكتاب الى الكاهن عبد الله بن حمزة قوله: «إنما يُجمع ما يُجمع للظلمة على وجه التقية والمدافعة، جائز.»، أما الناصر الحسن بن علي الأطروش فنسب في كتابه البساط الى جعفر قوله (ص 213): «التقية ديني ودين آبائي ولا إيمان لمن لا تقية له.»

هذه النصوص تكشف أن التقيّة ليست هامشا او استثناء لدى الزيدية، بل فقها مؤصلا وعقيدة تشرعن الكذب والتلون باعتبارهما أدوات لحماية "الولاية" واستدامة المشروع، وإنها ليست "حيلة ظرفية" بل نظام تشغيل سياسي يدار به الصراع مع الآخر "الغير" وطريقا للوصول الى السلطة والتمكن.

التقيّة والهوية الزيدية

ما أنتجته التقيّة في التجربة الزيدية لم يكن مجرد موقف فقهي أو اجتهاد جدلي، بل هوية مزدوجة رافقت المشروع عبر تاريخه، فالزيدية حملت على الدوام خطابين متوازيين:

خطاب داخلي مغلق يتحدث عن "الحق الالاهي" و"إمامة البطنين"، ويؤسس لفكرة التفوق السلالي ومسائل التكفير والكراهية.

وخطاب خارجي تصالحي يتغنّى بالشورى والعدالة والمساواة، ويُظهر القبول بالتعايش مع المجتمع اليمني.

هذه الازدواجية جزء أصيل وبنيوي في العقلية الزيدية الهادوية، سمحت لهم بالتغلغل في أي مجتمع، والتعايش المؤقت مع أي سلطة، ثم الانقلاب أو السيطرة عليها لحظة تتبدّل موازين القوة.

وجه مزدوج لم يخفه أئمتهم، فقد اشتهر عن يحيى بن الحسين الرسي طباطبا استخدامه للتقية، خصوصا أيام ضعفه، قال محمد عبد العظيم الحوثي: «كان مذهب آل البيت في اليمن من قبل الهادي استخدام التقية، واستخدم الهادي التقية مع المخالفين الذين كانوا يشنعون عليه سب الصحابة، فأظهر لهم الترضي على الصحابة ولم ينفعه ذلك عندهم".

وفي نسخة الزيدية المعاصرة قال الصريع حسين بدر الدين الحوثي في مقطع صوتي له متداول في وسائل التواصل الاجتماعي، وهو يوضح أن الزيدية استخدموا التقية بعد قيام الجمهورية، في السكوت على الصحابة، وعدم سبهم، ما نصه: «سكتنا عن أبي بكر وعمر، فلم يحترموا مشاعرنا، حتى قدموا لنا معاوية وعائشة».

يقول الدكتور حمود الخرام: "وقد استخدم هذه التقية عبدالملك الحوثي؛ فأظهر للناس أنه لا يسب الصحابة، مع أنه من أكابر شاتمي الصحابة عندما كان يدرس عند أبيه وعند أخيه حسين، ولا أدل على ذلك من سكوته على أكابر عصابته وهم يشتمون الصحابة جهارًا نهارًا، ومن على منابر وقنوات جماعته".

بهذا المعنى، لم تعد التقيّة مجرد "رخصة للنجاة"، بل تحوّلت إلى مكوّن من مكونات الهوية الزيدية، تصوغ خطابها وسلوكها السياسي، وتفسر قدرتها المتكررة على التعامل مع واقع الهزيمة والكمون ثم التغلغل، والمؤامرة، وصولا للعودة والسيطرة.

صور من ممارسة التقيّة

التقية هي الممارسة العملية التي شكّلت معالم مسار أئمة الزيدية السياسي عبر القرون، ويكفي تتبّع تاريخ الأئمة لنجد كيف استُخدمت التقيّة كأداة للبقاء، ووسيلة للسيطرة.

أولا: إخفاء الطقوس ثم فرضها

في فترات الضعف، كان الأئمة يتجنبون إعلان شعائرهم الخاصة مثل يوم الغدير أو عيد الولاية، حتى لا ينكشف عداؤهم للمجتمع اليمني ذي الأغلبية السنية، لكن بمجرد التمكن، تحولت تلك المناسبات إلى طقوس رسمية مفروضة بالقوة، وترمومترات لقياس الولاء.

يذكر مؤرخوهم أن الكاهن أحمد بن سليمان بن شاور كان يحيي هذه المناسبات في دوائر ضيقة سرّية، وقال «قد يؤخّر إظهار بعض الشعائر درءا للفتنة.» (المجموع، ج2، ص88)، ثم أجبر الناس عليها علنا بعد استقرار سلطته، والمشهد تكرر مع أئمة الزيدية ويتكرر اليوم مع الحوثيين: فقد بدأوا بإخفاء بعض الطقوس، كالاحتفال بيوم الغدير والاحتفالات الطائفية الأخرى، ثم فرضوها كأعياد رسمية ملزمة وموئل للنهب والجبايات وقياس للولاء بعد السيطرة.

ثانيا: الموقف من الصحابة

كما مارس أئمة الزيدية ازدواجية صريحة تجاه الصحابة، ففي لحظات الضعف يزعمون الترضي عليهم، وعند التمكن يُظهرون البغض والسبّ، ففي حين يعلن الرسي تكفير كل من لا يؤمن بولاية علي وانه الأولى بمقام رسول الله بما فيهم الصحابة والخلفاء حاول التظاهر بالترضي عليهم حتى لا يغضب اليمنيين كما اوردنا أعلاه.

أما عبدالله بن حمزة فيقول: في كتاب العيون، ج2، ص87: "من لم يقل بإمامة ولد علي من فاطمة فهو كافر، وإن أظهر الإسلام كله" وجاء قوله ذلك بعد أن حاول الظهور بمظهر البعيد عن سب وتكفير الصحابة قبل تمكنه.

أما في العصر الحديث، فقد كشف الصريع حسين الحوثي البغض للصحابة في محاضراته وملازمه ومنها ما اوردناه أعلاه، والأمثلة كثيرة.

ثالثا: التغلغل في الأنظمة القائمة

أخطر صور التقيّة كانت في علاقة الأئمة بالسلطات المتعاقبة، الكاهن يحيى بن الحسين دخل اليمن مقدما نفسه كعالم ووسيط سلام، لكنه سرعان ما تحوّل إلى إمام مقاتل بالسيف، وذلك عندما عرفه اليمنيون ورفضوه تماما، حتى استقدم جنودا من طبرستان لمقاتلة اليمنيين ومحاولة السيطرة عليهم.

في مراحل لاحقة، أظهر الزيديون من السلالة طاعة ظاهرية للدول اليمنية كالرسولية والصليحية أو وغيرها، بينما كانوا في الخفاء يُغذّون التمرد حتى يسقط الحكم القائم.

التقيّة كجهد سري لاختراق الدولة والأحزاب

لم تقتصر التقيّة في الفكر الهادوي على خطاب مزدوج أو طقوس مؤجلة، بل تحولت إلى عمل سري منظّم لزعزعة الاستقرار وزرع العناصر السلالية في جسد الدولة والنظام، وكان هذا هو الخيار الاستراتيجي للأئمة الزيدية للتغلب على واقع الهزيمة: فإذا أسقطهم اليمنيون، لجأوا إلى التغلغل في مؤسسات الدولة والتموضع داخل النظام القائم بوجوه متعددة، في انتظار لحظة السيطرة.

بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، تجلى هذا السلوك بشكل أوضح، فقد ادّعى السلاليون القبول بالجمهورية، بل وتقمصوا دور الجمهوريين، وارتدوا قناع المدنية والتحضر، غير أنهم في الواقع اشتغلوا على هدم الدولة من الداخل، والتوغل في مؤسساتها.

بل تجاوزوا ذلك إلى اختراق الأحزاب بمختلف توجهاتها الدينية والعلمانية والقومية والاشتراكية، ومن مواقعهم تلك، خدموا مشروعهم الزيدي السلالي تحت أقنعة متعدّدة، أظهرت في العلن الانتماء الحزبي، لكنها في جوهرها كانت تخفي الإيمان المطلق بالفكر السلالي والعمل لصالحه.

هذا النهج يجد جذره في العقيدة الهادوية نفسها التي لا تُقرّ بغياب الإمام: فهو عندهم "مستتر" إذا غُلب، و"ظاهر" إذا غَلب، وقد ظهر ذلك جليا فيما عُرف بالمجلس الإمامي الأعلى الذي تشكّل مطلع سبعينيات القرن الماضي، وأسفر عن الوثيقة الإمامية الشهيرة، التي حددت وسائل وأهداف إعادة الإمامة الزيدية إلى المشهد. 

هذه الوثيقة مثّلت صورة من صور العمل السري، المتشابه مع ما مارسته الصفوية والمدرسة الاثنا عشرية في إيران، ومع ما هو معروف من توظيف السرية في الفكر الصهيوني.

النسخة الأقبح لدين التقية

ما يعيشه اليمن اليوم مع جماعة الحوثي ليس خروجا عن التاريخ الزيدي، بل إعادة إنتاج للسيناريو القديم بوسائل جديدة، لقد طبق الحوثيون "التقيّة" بحذافيرها، وطبقوه في الداخل والخارج بوجهين متناقضين:

في الخارج: يرفعون شعار "السلام" و"المظلومية"، ويقدمون أنفسهم في المحافل الدولية كحركة سياسية تطالب بالحقوق.

في الداخل: يفرضون "الولاية"، ويكفّرون خصومهم، ويحتكرون السلطة والثروة عبر فرض الخُمس ونهب الموارد.

في بدايات صعوده، كان عبد الملك الحوثي يظهر بمظهر الهادئ البراغماتي، الذي تهمه مصلحة البلاد والعباد، ويعلن أن غرض حركته فقط رفض الجرعة ورفع الظلم، كذب كثيرا في علاقته بالأحزاب والشركاء السياسيين، وادعى انه لا يرغب في سلطة ولن يشارك في حكومة، ولن يدخل صنعاء ولن يهاجم الجنوب..

تحولت تلك الخطابات الفارغة الى وعود في الهواء، وسقطت كل أقنعة الحوثية الزيدية لتكشر الجماعة عن اقبح تجليات الامامة واقبح استخدامات التقية، ورأى اليمنيون كيف خادع الحوثي الجميع ليكتسح الدولة ويبتلع كل شيء لصالح مشروعه.

 كما أن الكاهن الزيدي الجديد حاول الظهور مؤمنا بالتعايش الفقهي والمذهبي، منكرا لما تمارسه جماعته من تجريف عقدي وتشييع قهري، وكم انكر مثلا انهم يسبون الصحابة، بينما ثبت "انه في دروسه المغلقة كان من أكثرهم طعنا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وما إن تمكن من العاصمة صنعاء حتى تحولت منابر الجماعة وقنواتها إلى ساحات علنية لسبّ الصحابة، في مشهد يكشف بوضوح كيف كانت التقيّة مرحلة انتقالية لا أكثر، كما يقول الباحث حمود الخرام.

البيان الزيدي الفاضح 

لقد كان من أوضح التجليات المعاصرة لاستخدام الزيدية لعقيدة التقية البيان الذي اعلنه كبار علماء الزيدية العام 2012 والذي حذر من حسين بدر الدين الحوثي وأبيه وأفكارهما، ووصفهما بـ"الضلال والابتداع"، بل وصل الأمر إلى تكفير الجماعة واعتبارها خطرا على اليمن والدين، ووقع على البيان شخصيات سلالية مثل، أحمد محمد المنصور وأحمد محمد الشامي وحمود عباس المؤيد، وصلاح فليتة، حسن أحمد زيد، وغيرهم.

لكن ما إن تمكّن الحوثيون حتى انقلب هؤلاء جميعا، وأعلنوا ولاءهم للجماعة، بل صار بعضهم في الصفوف الأولى للانقضاض على الدولة، إنها التقيّة: رفض علني عند الضعف، وولاء كامل عند القوة.

النتائج والآثار

إن أهم ما ولّدته التقيّة هو انعدام الثقة بالسلالة عبر التاريخ، وهو ما يجب لهذه النتيجة أن تؤسس اليوم معيارا مهما في التعامل مع هذه الجماعة والفكر الذي أنتجها.

فلا مجال للتنافس الشريف مع جماعة تبني مشروعها على خداع الناس، وتعتبر الكذب وسيلة مشروعة للبقاء، فلقد أثبتت التجربة أن التقيّة ليست مجرد ممارسة عرضية، بل عقيدة صلبة حكمت السلوك السياسي والأيديولوجي للسلالة منذ قرون.

خاتمة

إن التقيّة لم تعد مجرد "حيلة" أو "رخصة" فردية، بل تحولت إلى دين سياسي كامل، وإلى نظام تشغيل شامل لمشروع الإمامة الزيدية عبر التاريخ، ومع الحوثيين اليوم، تعيد هذه العقيدة إنتاج نفسها بصورة أبشع، في الداخل والخارج، بالوجه المزدوج نفسه: خطاب "المظلومية والسلام" للغرب، وخطاب "الولاية والتكفير" لليمنيين.

لهذا، فإن كشف التقيّة وتعريتها لم يعد ترفا، بل ضرورة وطنية وأخلاقية، فهي الكلمة التي تفسّر كل خداع، وكل انقلاب ناعم أو دموي، وكل اختراق للدولة والمجتمع، وبغير هذا الفهم، سيظل اليمنيون يواجهون الخديعة نفسها بأقنعة مختلفة.

‎#احرق_نفسه_بسبب_ظلم_الحوثي

 ‎#الحوثي_يقتل_الايتام

مقالات الكاتب