الصبيحة البلاد المنسية

لا أدري من أين أبدأ ، فالأمر أكبر من قلمي المتواضع ، والعقل يقف حائرا أمام وصف أرض كل ذرة رمل فيها أغلى من سبائك الذهب الثمينة ، وكل قبضة من طينها لاتساويها خزائن قارون مجتمعة ، أما بحارها فهي اللؤلؤ المكنون ، بل كل لؤلؤة من لآلئها أثمن من مشارق الأرض ومغاربها . غير أن كل ما أسلفت من الوصف لايعد شيئا إذ ماقورن برجالها الذين هم عماليق العرب وفرسانها ، إذا جاز التعبير ، حقا إنني في حيرة من أمري ، ماذا عساي أن أقول فيهم ؛ إنهم أكبر بكثير مما سوف يسطره قلمي ، بل هم أعظم وأجل من الفضاء الذي سيحلق فيه خيالي ؛ الصبيحة رجال فطروا على الإيثار والتضحية ، ربما يقول قائل إنهم فقراء ، أقول له صدقت يا أخي إنهم فقراء ، لكن هل سألت نفسك يوما عن سبب فقرهم ؟ اعلم يا أخي إن فقرهم جاء من كرمهم الحاتمي ، حقا إنهم حاتميون ، فهل سمعت يا أخي بكريم له خزائن من المال ؟ حاشا الله أن يجتمع المتضادان ؛ المال والجود ، فكرم الصبيحي لا أظن أن هناك كرما يساويه أو يدانيه في بقاع أرض العرب قاطبة . 

   نذهب إلى الوفاء ، وهو الأمر الذي استوطن قلوب الصبيحة ، وتملك سلوكهم ، وعشعش في أفكارهم ، يقول صاحبي - ساخرا - الصبيحة أكثر ما أجدهم مرافقين للقادة ، وحراسا للرؤساء والزعماء ، أقول له صحيح ، ولكن تلك هي ضريبة الوفاء ، فالصبيحي يصطفونه حارسا أو مرافقا ؛ لأنهم يعلمون يقينا أنه قد فطر على الوفاء ، وأنه لو قدمت له كنوز قارون مقابل أن يسلك الخيانة ماقبل بذلك ، بل يفضل أن يمسي من غير عشاء وهو على الوفاء ، ولايمسي في مرتبة قارون من البذخ ووفرة الأموال وهو خائن . وسأورد لك شيئا حقيرا من الأمثلة على ذلك ؛ رافق البيض عام 1994م ستة عشر صبيحيا مدججين بالسلاح في الصحراء من المكلا إلى صلالة ، وهم يحملون حقيبة بها اثنان مليار دولار أمريكي ، وكان بإمكانهم أن يقتلوا البيض ، ويتقاسموا تلك الأموال ، ثم يلتحقوا بأهلهم الصبيحة في سيئون وصولا إلى خراخير ، لكنهم كانوا يعلمون جيدا أن الخيانة عيب أسود لاتمسحه منظفات كوكب الأرض مجتمة ، وأن الخيانة عار مستديم يلاحق فاعله إلى أبد الآبدين . أزيدك من الشعر بيتا ؛ لقد رافق رهط من الصبيحة المعمري محافظ محافظة تعز ، في زمن هذه الحرب التي لما تنته جذوة اشتعالها بعد ، ومعهم حقيبة ، لا أدري كم تعداد المبلغ الذي بداخلها ، لكنه رواتب موظفي محافظة تعز كلها ، من قلب مدينة تعز حتى حي خور مكسر في حاضرة بحر العرب ، وهم يدركون جيدا أن معايير النجاة والخروج بسلام من بين تلك الفصائل المتناحرة التي قررت قتل المحافظ المعمري والظفر بما لديه من أموال ، أمر يشبه المستحيل إن لم يكن المستحيل نفسه ، ومع ذلك عبروا به طرق شبه خالية من البشر إلا ماكان من الجن الساكنين في تلك الخلوات ، ذلك الخلو والهدوء والليل ربما جعل الحليم يوسوس له الشيطان في ارتكاب ماشاء من الجرائم والظفر بما بين يديه من الأموال دون أن يتعرض لأدنى عقاب أو حتى توبيخ أو عتاب ، لكن الصبيحي كان أكثر حصافة من الشيطان نفسه ، وترفع عن أي فعل من شأنه أن يسيء إلى الذات في الدنيا والآخرة .

  قال صاحبي : بقي أنهم يقولون في الصبيحة إنهم مصاريع ومن غير عقول إذ يهلكون أنفسهم في أمور تافهة في غالب الأحيان . قلت : حقا إن الصبيحي قد يدفع بنفسه نحو التهلكة دون أن يحسب حسابا للبقاء ، لكن ذلك ليس لأنه يكره الحياة ، بل لأنه لايقايض بالدنيا وملذاتها الزائلة أي أمر يلبسه الذل والعار والصغار ، لاسيما إذا ما كان في الأمر مايمس كرامته ، أو يبلغ تدنيس عرضه ، أو انتزاع ذرة رمل من أرضه . أظن ياصاحبي أن الصبيحة قد وهبهم الله كرم حاتم ، ووفاء السموأل ، وإقدام عنترة . لكنهم لايجتمعون على الغنيمة ولايتفرقون عند المصيبة .     

  غير أن الصبيحة لايسلمون من العيوب ، فهم بشر ، وللبشر إخفاقات وزلات ، كما لهم مكارم وامتيازات . فقد سمعت ياصاحبي ذات يوم قولا في الصبيحة من رجل عصره الدهر ، صاحب حكمة وتجربة ، فقلت له : أظن أنك قد صدقت في هذا القول ، وإن كنت قد أردت غير ذلك . قال صاحبي : وماذاك القول ؟ قلت : لقد قال الرجل : اسمع ياهذا " أنتم الصبيحة قد تجلت فيكم حكمة الله إذ مزقكم تمزيق أيادي سبأ ، وحرم عليكم الانتظام لمرجعية واحدة منكم ، ولو لم يكن ذلك لسيطرتم على البلاد وحكمتم العباد دون منافس ".