اللَّهم إنِّي صائم!!

رن هاتفي ، وكان المتصل صديقي فؤاد ، أخبرني عن أمسية رمضانية في ديوان شيخ مشائخ ، وان ضيوف الليلة شخصيات مرموقة ، وزراء ومحافظين ونوابا ووكلاء ورؤساء احزاب .

فلم أتردد لحظة في قبول دعوة صديقي ، كيف لا وهي جامعة لكل الأطياف والوجوه ، شرعية وإنتقالي وقوى ثورية وجنوبية ويمنية. 

المهم كوكتيل يشبه مخضرية بائع العتر في باب اليمن ، واعتقد انكم تعرفون قصة البائع الذي اختلط عتره بفضلات حماره ، وبدلا من إتلافه لكمية العتر في الجرَّة ، قام بمزجه بروث الحمار ، وحين كان زبائنه يسألونه وبدهشة عمَّا يبيعه لهم فيجيب : مخضرية ".

ومع مخضرية الأمسية تحمست لهذه الخلطة وقلت لنفسي ينبغي أن نُشجِّع وندعم مثل هذا المزيج المختلف المتنوع ، ففي التوحد والاندماج قوة ، وفي التمزُّق ضعف وإنكسار .

صحيح أنني لم استوعب أن يكون لجولد مور أو للحسوة شيخ مشائخ ؛ فعلى حد معرفتي كان في عدن كلها ثلاثة شيوخ فقط ، الشيخ عثمان ، والشيخ اسحق ، والشيخ الدويل ، ولا أدري ما إذا كان هناك شيخ رابع ، أو أنني أعيش فأرى في كل حارة مشائخ .

ولتكن صيرة أو الحسوة إمارة " موناكو " في قلب فرنسا الجمهورية ! فإين المشكلة ؟! . فماما أمريكا فيها مجلس شيوخ قوامه مئة شيخ يمثلون الولايات الخمسين ، ولا ضير إذًا من المسمى .

فهناك رفاق لنا كانوا تقدميين وبعضهم قادة عسكريين وسياسيين ، والان أراهم في الصباح وزراء ومحافظين ونواب برلمان ويلبسون الجاكيت والكرفتة السويسرية ، وفي المساء مشائخ بقميص وعقال خليجي أو بمعوز حضرمي وغترة شبوانية .

بقيت اضحك وأتذكر قصة شيخ مشائخ " جُوس الجمَّال ' وهي قرية متاخمة لسناح بالضالع ، ولا تزيد عن عشرة بيوت .

صديقي فؤاد يمتلك سيارة مهلهلة ، فكل مرَّة يؤخذني معه أجدني امشي راجلًا نصف الطريق ، فإما أن إطار السيارة بنشر ، أو أن المحرك توقف عن الدوران نتيجة البنزين الملوث أو بسبب البطارية او سواها من الإعطاب.

لذلك وما أن أخبرني بأنه سيأتي لنقلي بسيارته حتى بادرته معترضا في أذنه : أرجوك لا تأتي ، رمضان ولا استطيع خوض سباق ماراثوني مثلما اعتدت في باق أيام السنة ، لن ادهف سيارتك ولو لمتر واحد ، يكفي أن الواحد منا يدهف نفسه من فرط حمولة العشاء " .. 

ذهبت إلى جاري منصور اللحجي ، وعرضت عليه نقلي في دراجته النارية نظير تكفلي له بتخزينة قات . فما أن لفظت مفردة تخزينة الَّا ورأيته ناهضا ومأتزرا معوزه .  

ومنصور مولعي من الدرجة الأولى، والده كان باع بقرته لواحد ضالعي . أراد بقرة مُدرِّة للحليب والسمن ، وهذا كان شرطه الأساس .

وعندما علم صاحبنا أن البقرة لا تبصر ذهب إلى اللحجي كي يؤنٌّبه على فعلته فرد هازئا : شوه ببقرتي ؟ تعطيك حليب ! تعطيك سمن ؟! أجاب : نعم ! .

طيب شوه تُبى أكثر ؟! أجاب : لكن بقرتك عمياء ! اللحجي : أنا بعت لك بقرة تعطيك حلب وسمن أو بقرة تقرأ لك جرائد .

ومن يومئذ ومنصور لا يتوقف عن الضحك وترديد قولة والده : أنا بعت لك بقرة تعطيك حلب وسمن ، أو بقرة تقرأ لك جرائد .. 

وعودة للموضوع ، وبما أنكم تعرفون حال الدراجات النارية في عدن بعد أن صارت مؤذية وتسببت في مقتل عديد من الأشخاص . فبدلا من الركوب خلف السائق كان ولابد أن أركب بجواره وفق التصميم الجديد .

 وخشية من ضربة ريح تضرب العصب السابع أو الثامن أو العاشر ، قمنا بإجراءات إحترازية ، إذ لففنا رأسينا ورقبتينا في غترات عدة .

بدونا أشبه بمُشجب متحرك ، والوصف الأدق كأننا مثل اولئك الفتيان المغفلين البائسين الذين يظنون أنهم في مهمة جهادية انتحارية تفضي بهم إلى أحضان بنات الحُور الجميلات ، ولا يدرون أنهم يساقون إلى جهنم وبئس المصير..

طوال الطريق كنت اتأمل في وجه صاحبي وأدعو الله أن يلطف بنا ، خشية من رصاص عسكر هذه الأيام ، قد البنادق تقرح فوق ظهورهم وهم يمشون في السوق ، فكيف وهم يرون أثنين إرهابيين فوق دراجة نارية ، وفي الليل ، وفي ظل انطفاءات الكهرباء ؟! .

كنت كلما اقتربنا من نقطة طلبت التهدئة وخلع الأقنعة الواقية،

وبعد مسيرة طويلة وصلنا المكان بشق الأنفس ، أستقبلنا فؤاد وقادنا إلى ديوان الشيخ ، جلس كل منِّا في متكأة ، وما هي إلا ساعة أو يزيد إلَّا والمجلس مكتظ بالمخزنين الذين وفدوا للمكان من كل حدب وصوب . 

في رأس المجلس جلس كبار الضيوف ، وكل من هؤلاء أخذ مايك الميكرفون وتحدث في الحاضرين ، لا أعلم ما إذا كان هناك من صغي أو استوعب ما قالوه .

كان أغلب الحضور منشغلين بقريط أعواد القات ، ومن هم قريب من الضيوف أخذوا يتهامسون في أحاديث جانبية أو يضحكون على أحد الضيوف ، فالشخص أخذته نشوة الساعات السليمانية ، وبقدر ما كان فمه مفتوحا طوال الأمسية غفل اغلاق أسفله .

أخذوا يلمُّحون ، حاولوا الهمز واللّمز ، لكن الضيف لم يفهم تلك الإشارات أو الضحكات ، ظل في متكأه يمضغ أعشاب القات ، فيما لسانه يردد عكس قولة أبو حنيفة : مد رجلك ولا تبالي . 

تحدَّثوا جميعًا ، وعندما أزف الوقت غادروا ، وغادرنا معهم ، ومثلما جئنا عدنا ، وفي الطريق سألني رفيقي وبكل عفوية : هذا المشوار المتعب وتخزينة القات من أجل رؤية كعلة المحافظ ؟! لو انك أخبرتني كنت أرص لك كعال رجال حافتنا مثل بطاط السوق !! .

ضحكت لضحكته وقلت : الله يسامحك يا فؤاد ، لقد كانت ليلة للتاريخ ، فلم يبق غير القول بأن لا أحد سيتذكر كلمة واحدة قالها الوزراء أو نوابهم ، لكنهم لن ينسوا ابدًا كعلة المحافظ ..

            ..اللَّهم إنِّي صائم ..

مقالات الكاتب