العملات المشفرة.. هل تصبح رأس حربة في أزمة مالية عالمية؟

المدنية أونلاين/الاقتصادية:

قبل أيام، طلب جاري جينسلر، رئيس هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، من الكونجرس، بمنح الهيئة مزيدا من الصلاحيات لتحسين الإشراف على التداول والإقراض ومنصات العملات المشفرة. برر جاري جينسلز مطلبه بأن سوق العملات المشفرة "منطقة فوضوية مليئة بالاحتيال والمخاطر على المستثمرين".

في الواقع لم تكن تلك القناعة فريدة من نوعها، فقد سبق الطلب الأمريكي بأيام تحذير صادر عن بنك إنجلترا "البنك المركزي البريطاني"، عادا أن العملات المشفرة تهدد الاستقرار المالي والاقتصادي الأوسع، مشيرا إلى أن صعود تلك العملات قد يؤدي إلى تدفق عمليات السحب من البنوك الكبرى.

لم تأت تلك التحذيرات من فراغ، فكثير من أكبر البنوك والمؤسسات المالية الدولية تواصل من حين إلى آخر إصدار تحذيرات بأن العملات المشفرة ربما تشكل تهديدا للمؤسسات المالية الحالية، بما يتضمنه ذلك من مخاطر على استقرار الاقتصاد العالمي، ويعد كثير من البنوك أن انتشار العملات المشفرة سيسمح بالتحايل على ضوابط رأس المال بشكل كبير، وسيحد بوضوح من قدرة السلطات المالية على تتبع حركة الأموال، وسيفتح هذا التطور الباب على مصراعيه لعمليات غسيل الأموال، وما تمارسه من تشويه للنظام الاقتصادي.

كما يمكن أن يكون التعامل بالعملات المشفرة محفوفا بالمخاطر على المستثمرين، بل إن بعض من كبار رؤساء مجالس البنوك من أمثال جيمي ديمون، رئيس مجلس إدارة بنك جي بي مورجان، الذي تبلغ القيمة الإجمالية لأصوله نحو 2.5 تريليون دولار، عد العملات المشفرة "احتيال" محذرا من قدرتها على زعزعة استقرار أو تقويض سلطة وسيطرة البنوك المركزية.

من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" آي. بي فرانك الخبير المصرفي في بنك نت وست، "الحكومات تسيطر على إصدار العملات الوطنية، وتستخدم البنك المركزي لإصدار الأموال أو إتلافها عندما تصبح غير صالحة للاستخدام، ومن خلال البنك المركزي وعبر ما يعرف بالسياسة النقدية تمارس الحكومات تأثيرها الاقتصادي، وعبر تلك الآلية النقدية تصبح الحكومات قادرة على توجيه الاقتصاد لتحقيق الأهداف التنموية المستهدفة، كما أن إصدارها للعملات يمكنها من تتبع حركة الأموال، وتحديد من يربح من تلك الحركة وتحصيل الضرائب، كما يمكنها من تتبع النشاط الإجرامي، ويتم فقدان كل هذه السيطرة عندما تقوم الهيئات غير الحكومية بإنشاء عملتها الخاصة".

ويضيف، "انتشار العملات الرقمية يعني عمليا انهيار النظام المصرفي عصب النظام الاقتصادي الدولي، حيث دون البنوك تختفي الوظائف وعائدات الضرائب، التي تولدها الأنشطة البنكية والأعمال الاقتصادية، التي تساندها عبر عمليات الإقراض واسعة النطاق".

بينما الدكتور جي أرثر، أستاذ المالية العامة في جامعة أكسفورد يتبنى أيضا وجهة نظر رافضة للعملات الرقمية، ويحذر من مخاطرها على الاقتصاد الوطني والعالمي، إذ اتسع نطاق استخدامها أو باتت عملة وطنية، كما فعلت السلفادور أخيرا.

في هذا السياق، يقول لـ"الاقتصادية"، إن "العملات المشفرة تحقق في بعض الأوقات أرباحا طائلة للمتعاملين بها أو المضاربين عليها، لكنها أيضا يمكن أن تحقق خسائر جسيمة في اليوم التالي، هذا الوضع يكشف عن الطابع غير المستقر والتقلب السريع والعنيف لهذا النوع من العملات، تلك الوضعية تجعل من الصعب إن لم يكن مستحيلا تقدير الميزانيات العامة بشكل دقيق ومستقر وثابت على مدار العام، حتى لو منحت الحكومات قوة إبراء قانونية للعملات المشفرة".

ويضيف "هذا التقلب السريع قد يصبح عائقا رئيسا أمام وضع تقييم دقيق لحصيلة الدولة من الضرائب أو الجمارك أو حتى من بيع منتجاتها في الخارج، كما أن التغير السريع في قيمة العملات المشفرة يعوق في التطبيق العملي تحقيق العدالة والتوازن في التبادل التجاري الداخلي، فاستخدام العملات المشفرة في التعبير عن الالتزامات المالية داخل الدولة الواحدة بصفتها وسيلة دفع إلزامية في عمليات البيع والشراء أو تسعير الخدمات المقدمة قد ينتج عنه خلل ضخم قد يؤدي إلى خسائر هائلة وزيادة حادة في الفروق الاجتماعية نتيجة التقلبات المستمرة في قيمتها".

وفي الواقع، فإن التقلب العنيف في قيمة تلك العملات يحول دون استخدامها كمستودع للقيمة، التي تعد صفة رئيسة يجب أن تتمتع بها العملة لتصبح عملة حقيقية قابلة للتداول على نطاق واسع، كما ستواجه البنوك المركزية تحديات من نوع جديد ومربك يتعلق بأسعار الفائدة والعلاقة بين سعر الفائدة على العملات المشفرة والعملات الوطنية، وكذلك العلاقة مع العملات الدولية المتداولة مثل الدولار واليورو والاسترليني والين الياباني.

من هذا المنطلق يشير بعض الخبراء إلى أن كل عقد أو نحو ذلك يتم توفير حافز لأزمة اقتصادية كبرى، فقد شهدت تسعينيات القرن الماضي فقاعة الدوت كوم، وعانى الاقتصاد العالمي أزمة الرهن العقاري، التي انطلقت من الولايات المتحدة في العقد الأول من عشرينيات هذا القرن، فهل يمكن أن يتسبب انتشار العملات المشفرة في وقوع أزمة مالية عالمية في العقد الثاني من القرن الـ21؟

تتباين إجابات ومواقف الخبراء عند الرد على هذا التساؤل، فبينما يعد بعضهم العملات المشفرة رأس الحربة، التي ستتسبب في الأزمة المالية العالمية المقبلة، يرى آخرون أن هناك مبالغات بشأن قدرة أسواق العملات المشفرة على إحداث ضرر ذي طبيعة دولية.

ربما تكون الدكتورة ديفي ماك كوين، التي تولت مسؤولية اللجنة الاستشارية لبنك إنجلترا في العقد الأول من الألفية الجديدة من أبرز الأصوات، التي تشير إلى مخاطر العملات المشفرة، لكنها ترى أنه لا يمكنها إيقاع أزمة مالية عالمية، بصفتها في أفضل الأحوال لا تمثل سوى شريحة صغيرة من النظام المالي العالمي شديد الضخامة.

وتقول لـ"الاقتصادية" إن "حدوث أزمة مالية عالمية يعني أن النظام المالي في البلدان المتقدمة وتحديدا أوروبا الغربية والولايات المتحدة لم يعد يعمل بكفاءة لفترة طويلة من الزمن، دون أن يتدخل أحد للقيام بعملية إصلاح حقيقية".

وتؤكد أن العملات المشفرة في الجوهر تطرح نفسها كنظام نقدي مواز للنظام المصرفي، إذ تتيح للأشخاص الوصول إلى القروض والمدخرات والتأمين والتداول دون المرور عبر النظام المالي للدولة، لكن بالنسبة لمعظم مواطني البلدان المتقدمة، فإن البنوك العادية تعمل بشكل جيد جدا لتوفير تلك الاحتياجات، ولذلك لن يكون هناك احتياج حقيقي لهذا النوع من العملات للقيام بأعمال البنوك.

وتعد الدكتورة ديفي ماك كوين أن الحديث عن أن عديدا من الفقراء لا يتعاملون مع البنوك، فإن ذلك يتعلق بالفقر أكثر من ارتباطه بنقص الوصول إلى الخدمات المالية.

لكن وجهة النظر تلك تلقى رفضا من خبراء دوليين يدعون إلى عدم التساهل مع أسواق العملات المشفرة، ويعتقدون أن النمو السريع لها والشعبية التي تكتسبها، ربما تكون لها عواقب وخيمة، وتتسبب في أزمة مالية عالمية بشكل مفاجئ وحاد.

يبنى أصحاب وجهة النظر تلك رؤيتهم في أغلب الأحيان على أن أسواق العملات المشفرة لا تتسم بالشفافية، ولا تصنع ثقة حقيقية مستدامة بالنسبة لمعظم المتعاملين، وربما يكون ذلك سبب التقلب السريع والعنيف في قيمتها.

التقلب المتواصل للقيمة المالية لتلك العملات مقيمة بعملات دولية مثل الدولار واليورو يصبح شديد الخطورة مع تزايد القيمة الإجمالية للاستثمارات، التي تضخ في أسواق العملات المشفرة، وقد يؤدي التقلب المتواصل في قيمتها وعلى فترات قصيرة إلى هزة عنيفة في أسواق المال العالمية، وتكرار تلك الأزمات قد يسفر عن أزمة مالية عالمية عنيفة.

بدوره، يقول لـ"الاقتصادية" دي.إم راسل الخبير الاستثماري، "العملات الافتراضية شهدت ارتفاعات وانخفاضات شديدة في الأعوام الخمسة الماضية، بينما كان مؤشر الدولار الأمريكي مستقرا نسبيا خلال ذات الفترة، فسوق العملات المشفرة أكثر حساسية للمعلومات، ويعتمد تقييم كل عملة مشفرة بشكل كبير على القوى الخارجية مثل الآراء العامة والعرض والطلب الاصطناعي ومنافسة العملات المشفرة الأخرى وفائدة العملة".

ويعد دي. إم راسل أن التقلب النسبي في تقييم العملة المشفرة يدمر الثقة الخارجية والداخلية في قوتها، وهذا تحديدا ما يصنع الأرضية لأزمة مالية عالمية.

في سياق ذي صلة، يرى أيضا عدد من الخبراء، الذين يعتقدون أن انهيار أسواق العملة المشفرة على نطاق واسع سيؤدي إلى تداعيات مالية ضخمة أو حتى أزمة مالية عالمية، أن الأزمات المالية تحدث غالبا نتيجة الافتقار إلى الفهم والتنظيم المحيط بالأدوات المالية الجديدة، وكلما تبنى عدد أكبر من الجمهور منتجات مالية تتسم بالغموض وتفتقر إلى التنظيم، فإن إمكانية وقوع الأزمة المالية العالمية أكبر.

ويصبح التساؤل ما العمل؟ وبمعنى أدق ما طبيعة الإجراءات الوقائية التي يجب الإسراع باتخاذها لضبط سوق العملات المشفرة؟

يصف بعض الخبراء العملات المشفرة بأنها "ترخيص للقطاع الخاص بطبع النقود"، فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يقوم "القطاع العام" بطبع النقود، فبحكم ما يمتلك "القطاع العام" من إمكانات فالمرجح أن يكون أكثر قوة ومصداقية في أعين المتعاملين بتلك النقود.

من هذا المنطلق تحديدا والمبني على فكرة اختراق أسواق العملات المشفرة من قبل الحكومات، فإن وجهة النظر الأكثر شيوعا للسيطرة على أو تحجيم أسواق العملات المشفرة تقوم الآن على أساس قيام البنوك المركزية بإصدار عملتها المشفرة، فتلك العملة الجديدة المدعومة من الحكومة ستساعد على استقرار أسواق العملات المشفرة، وستزيد الثقة الخارجية والداخلية بعالم الاستثمار في العملات المشفرة، حيث ينظر إلى الحكومات غالبا على أنها مستثمر قوي وآمن ومستقر، وستعمل تلك العملات المشفرة الحكومية كملاذ آمن في حال حدوث صدمة في السوق، وسيكون رجال الأعمال قادرين على تداول أرصدتهم من العملات المشفرة شديدة التقلب، عبر تحفيزهم بالتخلي عنها لمصلحة العملات الحكومية المشفرة.

ويشير لـ"الاقتصادية" الباحث في بنك إنجلترا ألكسندر لويس، إلى أنه نظرا لإدارة الحكومة العملة المشفرة، التي ستصدرها، فإن التفاصيل ستكون معروفة ودقيقة، إذ إن العملات المشفرة الحالية تحجب عديدا من التفاصيل والخصائص. أما العملات المشفرة، التي سيصدرها البنك المركزي فستكون أكثر شفافية وأجدر بالثقة، حيث إنها أقل تقلبا وأكثر قبولا على نطاق أوسع بسبب الدعم الحكومي لها.

ويقول "فبغض النظر عن تقييم السوق، سيكون لدى العملات الحكومية المشفرة قيمة حقيقية، وهذا سيؤدي إلى زيادة الثقة الخارجية ومنع الصدمات الناجمة عن تقلبات التقييم المفاجئ، التي تثير ذعر المستثمرين".

بالطبع يرفض أنصار العملات المشفرة تلك المقترحات بقوة عادين إياها محاولة التفافية للقضاء على العملات المشفرة من خلال ضرب فكرة اللامركزية وغياب التنظيم الحكومي.

مع هذا، فإن التزام البنوك المركزية بأن العملات الرقمية الصادرة عنها ستكون خالية من التدخل الحكومي، سيكسب العملات المشفرة الحكومية مزيدا من الشعبية بين المستثمرين، وسيجعلها وسيطا حقيقيا للتبادل.

لكن المضي قدما في إنجاح هذا المخطط يتطلب الحفاظ على بعض الخصائص الأصيلة للعملات المشفرة، أبرزها أن يكون عدد العملات المشفرة، التي سيصدرها البنك المركزي محدودا، فمن خلال ذلك ستضمن الحكومات إمكانية دعم جميع العملات المشفرة، التي تصدرها، سواء عبر العملات الرقمية أو الذهب، كما أن الحد من عدد العملات المشفرة من شأنه أن يصنع جاذبية خاصة لها لدى المستثمرين ويزيد من الشفافية.