مصادرة الممتلكات في اليمن بين البطلان القانوني وتعقيدات العدالة الانتقالية
منذ سيطرة جماعة الحوثي على صنعاء عام 2014، دخل اليمن مرحلة مظلمة من الانتهاكات الممنهجة التي لم تقتصر على القتل والاعتقال والإخفاء القسري، بل امتدت إلى مصادرة ممتلكات ومنازل الخصوم السياسيين والفكريين. هذه المصادرات جرى تنفيذها عبر ما سُمّي بمحاكم “متخصصة”، وهي في حقيقتها محاكم صورية تفتقر إلى أي شرعية دستورية أو قضائية. ومن ثم، فإن كل ما صدر عنها من أحكام يُعد منعدم الأثر قانونياً، ولا يرتب أي انتقال مشروع للملكية.
الملكية الخاصة في اليمن محمية بموجب الدستور والقوانين النافذة. فالمادة (7) من الدستور تؤكد التزام الدولة بحماية الملكية، والمادة (20) تنص على أن الملكية الخاصة مصونة ولا يجوز نزعها إلا للمنفعة العامة وبمقابل تعويض عادل. كما أن القوانين العقارية والمدنية تشدد على بطلان أي تصرف يقع نتيجة إكراه أو عبر سلطة غير شرعية. على الصعيد الدولي، فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته (17) يحظر حرمان أي شخص من ممتلكاته تعسفاً، فيما تجرّم اتفاقية جنيف الرابعة في مادتها (53) مصادرة الممتلكات الخاصة إلا إذا اقتضتها ضرورة عسكرية قهرية. ويعزز النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية هذه الحماية باعتباره “نهب الممتلكات” جريمة حرب صريحة. وبذلك، فإن الممارسات الحوثية في اليمن تضع مرتكبيها في دائرة المسؤولية الجنائية الدولية، وتفتح الباب أمام الملاحقة أمام القضاء الدولي.
تزعم الجماعة أنها تعيّن “حارساً قضائياً” لإدارة تلك الأملاك المصادرة، غير أن هذا الادعاء ليس سوى غطاء قانوني زائف، إذ إن الحارس القضائي في القانون يفترض أن يكون محايداً ويعمل لحماية الملكية محل النزاع حتى يُبتّ فيه قضائياً أمام محكمة مختصة وشرعية. أما في الحالة الحوثية فقد تحول هذا المفهوم إلى أداة للاستيلاء المنظم، حيث عُيِّن أشخاص من الجماعة لإدارة وبيع وتأجير العقارات المصادرة لصالحها، وهو ما يفرغ المصطلح من مضمونه القانوني ويكشف زيف الادعاء.
وفي هذا السياق، وثّقت منظمة سام للحقوق والحريات عبر تقرير مفصل أن ما يسمى بالحارس القضائي استولى على ممتلكات وأموال تتجاوز قيمتها ثلاثة مليارات دولار، في واحدة من أكبر عمليات النهب المنظم في اليمن. وأكد التقرير أن هذا الرقم يمثل الحد الأدنى، بينما تشير المعطيات الميدانية إلى أن حجم النهب قد يتجاوز عشرة مليارات دولار، بالنظر إلى استمرار عمليات المصادرة والتصرف في الممتلكات العامة والخاصة. وكان آخر تلك العمليات نهب مصنعي أدوية تصل قيمتهما إلى نحو خمسة وخمسين مليون دولار. هذه الأرقام الضخمة تكشف أن وظيفة “الحارس القضائي” لم تكن حماية الملكيات بل تحويلها إلى قناة للنهب وغسيل الأموال، وإلى رافد رئيسي لاقتصاد الحرب القائم على التضليل والشرعنة الشكلية.
إلا أن الإشكال الأكبر يبرز في المستقبل مع انطلاق أي عملية للعدالة الانتقالية. فملف المصادرات لن يكون مجرد حالات فردية، بل سيشكل قضية جماعية ذات أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية. كثير من المنازل بيعت أو وُزعت على أطراف جديدة، وبعضها تعرض للهدم أو الإتلاف، ما سيخلق نزاعات متشابكة بين الضحايا والمستفيدين الجدد. كما أن وجود وثائق مزيفة صادرة عن مؤسسات الحوثي العقارية والقضائية سيضاعف من تعقيد المشهد، ويستلزم مراجعة شاملة للسجلات الرسمية وإعادة الاعتبار إلى الوثائق الأصلية.
التجارب الدولية تقدم نماذج مشابهة يمكن لليمن الاستفادة منها. ففي جنوب أفريقيا، شكلت قضايا المصادرة والاستيلاء على الأراضي جزءاً من عملية العدالة الانتقالية التي هدفت إلى رد الحقوق لأصحابها أو تعويضهم. وفي كولومبيا، أُنشئ برنامج وطني لاستعادة الأراضي المصادرة من قبل الجماعات المسلحة، وقد ارتبط نجاحه بإنشاء قاعدة بيانات شاملة وتعاون وثيق مع الضحايا. أما في البوسنة والهرسك، فقد كانت إعادة الممتلكات إلى النازحين واللاجئين أحد الشروط الرئيسية لإرساء السلام بعد الحرب. هذه النماذج توضح أن معالجة الملف في اليمن تتطلب إرادة سياسية واضحة، وآليات قانونية ومؤسسية متخصصة، ودعماً دولياً يضمن العدالة والإنصاف.
وما يضاعف خطورة هذه الممارسات أن المصادرة لم تكن مجرد عقوبة سياسية، بل تحولت إلى وسيلة إذلال للخصوم، وأداة لتمويل اقتصاد الحرب وغسيل الأموال. فقد جرى تحويل عائدات العقارات المصادرة إلى قنوات غير مشروعة، وإدخالها في السوق المالية والتجارية كجزء من اقتصاد الحرب القائم على النهب والجبايات، وهو ما يشكل خطراً على أي عملية إصلاح اقتصادي مستقبلي، ويجعل من ملف المصادرات قضية تمس العدالة الاجتماعية والاقتصادية في آن واحد.
وعليه، فإن مسؤولية الحكومة اليمنية اليوم لا تقتصر على إصدار بيانات الإدانة، بل تتطلب إجراءات عملية عاجلة. أول هذه الإجراءات هو توثيق كل حالات المصادرة بدقة، عبر قاعدة بيانات وطنية تشمل أسماء الملاك الأصليين ومواقع العقارات وأسماء المستفيدين من الاستيلاء. كما يتعين على الحكومة إصدار إعلان رسمي يؤكد أن جميع الأحكام والعقود الصادرة من محاكم ومؤسسات الحوثي باطلة وعديمة الأثر القانوني. هذا التوثيق سيكون بمثابة ضمانة أولية لحماية حقوق الملاك، ومرجعاً أساسياً لبرامج جبر الضرر المستقبلية.
إضافة إلى ذلك، فإن من الضروري أن تضع الحكومة هذه القضية ضمن أولويات العدالة الانتقالية، باعتبارها ليست مجرد نزاع عقاري بل مسألة مرتبطة بالعدالة الاجتماعية والسياسية. فالمصادرة أداة لتفكيك النسيج الاجتماعي وإضعاف الخصوم، ورد الحقوق سيشكل خطوة أساسية لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، ولتعزيز مبدأ سيادة القانون. كما أن معالجة هذه القضية ستسهم في إعادة الاعتبار لمفهوم الملكية باعتباره حقاً مقدساً لا يجوز مصادرته بقرار سياسي أو بحكم قضائي صوري.
إن المجتمع الدولي معني هو الآخر بهذه القضية، لأن استمرار عمليات المصادرة دون مساءلة يمثل تهديداً مباشراً للسلم الأهلي، ويعطل أي مسار للسلام المستدام. لذلك فإن من الضروري أن تُدرج قضية المصادرات ضمن تقارير المبعوث الأممي والآليات الحقوقية الدولية، وأن يتم التعامل معها كجريمة ممنهجة تستوجب المساءلة لا كخلاف عقاري داخلي. ومن هنا، فإن الربط بين هذه الممارسات ونصوص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية سيوفر أساساً قانونياً متيناً لمساءلة مرتكبيها على الصعيد الدولي.
خلاصة القول إن مصادرة المنازل في اليمن ليست مجرد انتهاك عابر، بل هي جريمة مركبة تمثل اعتداءً على الحق في الملكية، وانتهاكاً للقانون الدولي الإنساني، وأداة إذلال وغسيل أموال، وتهديداً لمستقبل العدالة الانتقالية. ومعالجتها ستكون اختباراً حقيقياً لجدية الدولة والمجتمع الدولي في إعادة بناء اليمن على أسس من العدالة والإنصاف وسيادة القانون.
*نقلاً عن المصدر أونلاين