سيرة عنترة: انتصار للهوية العربية

المدنيةأزنلاين ـ متابعات :

يعد الصراع العربي الفارسي واحداً من أقدم الصراعات التي شهدتها وتشهدها المنطقة، فهو صراع هوية، ووصل صداه إلى السير الشعبية التي أبدعها الوجدان العربي، وعبر فيها عن هواجسه وأحلامه وطموحاته. ولم يصلنا من هذه السير سوى أقل القليل ويمكن حصرها في: حمزة البلهوان، عنترة بن شداد، الأميرة ذات الهمة، الزير سالم، الظاهر بيبرس، علي الزيبق، الهلالية، سيف بن ذي يزن. وسيرة عنترة بن شداد التي أعادت طبعها بأجزائها الثمانية الهيئة العامة لقصور الثقافة/ القاهرة، هي واحدة من السير الشعبية التي تناولت هذا الصراع العربي الفارسي، إضافة إلى الكثير من الصراعات الأخرى. فسيرة عنترة تعد واحدة من أهم المنجزات الأدبية ليس على المستوى العربي فحسب، وإنما على الصعيد العالمي، وتأتي في المرتبة الثانية بعد حكايات ألف ليلة وليلة من حيث احتفاء الغرب بها.


ويلاحظ أن سيرة عنترة كأي سيرة لا تخلو من ذلك الصراع العربي الفارسي، مثل سيرة "حمزة البهلوان"، وسيرة "الأميرة ذات الهمة وابنها عبدالوهاب"، بينما في السِّير التي كُتبت في مصر مثل سيرة "سيف بن ذي يزن"، وسيرة "علي الزيبق"، وسيرة "الظاهر بيبرس"، وسيرة "بني هلال"، فإن ذلك الصراع يكاد لا يبين فيها. فعلى سبيل المثال نجد في سيرة سيف بن ذي يزن، أن بطلها يستنجد بالفرس كي يحرر وطنه من الأحباش، وهي كتبت في مصر في القرن الرابع عشر وعبَّر فيها المصريون عن قلقهم من منع الأحباش وصول مياه النيل إلى مصر، فلم تكن معنية بالصراع بين الفرس والعرب في شبه الجزيرة العربية. سيرة سيف بن ذي يزن تدافع عن قيمتين يحددهما الدكتور خطري عربي؛ أستاذ الأدب الشعبي في جامعة القاهرة، الأولى تتمثل في الدفاع عن الإسلام ونشره حتى في عوالم سحرية، والثانية حماية نهر النيل من الأحباش. لكن سيرة "حمزة البهلوان"، أو "حمزة العرب" فهي قائمة على هذا الصراع (العربي – الفارسي)، فهي تؤرخ لتكوين الإمبراطورية العربية الإسلامية، متناولة شخصية البطل العربي "حمزة" الذي استطاع أن يهزم الفرس وينشر الإسلام في بلاد فارس، محققاً نبوءة كسرى بسقوط مُلكه على يد فارس عربي من الجزيرة العربية. وهناك سيرة "الأميرة ذات الهمة" التي أفنت حياتها في مقاتلة الروم، وتعرج على نكبة البرامكة في عهد هارون الرشيد، والأزمة السياسية التي حدثت بين العرب والفرس.

ويدور الصراع العربي الفارسي في سيرة عنترة بن شداد، في ثلاثة محاور. المحور الأول يتمثل في صراع داخلي؛ أي بين قبيلة عبس ونفسها، والمحور الثاني صراع محلي بين القبائل العربية وبعضها البعض، أما المحور الثالث فهو الصراع "الدولي" إن صحَّ التعبير بين العرب والفرس أو بين العرب والروم. وهذه الحروب تتم داخل كل جزء من السيرة في شكل متدرج. فالصراع الداخلي مثل صراع عنترة مع قبيلته، أو صراع عنترة وبني قراد مع الربيع بن زياد العبسي، ثم الصراع مع قبائل عربية أخرى مثل بني ذبيان أو طيء، أو حتى مع المناذرة في العراق، أو الغساسنة في الشام، أو الحساسنة في اليمن، ثم تتسع الدائرة لتصل إلى حرب كسرى أو قيصر الروم. وتارة تتحول هذه الحروب إلى حرب عالمية بمعنى الكلمة، يشارك فيها مئات الآلاف من المحاربين، إذ يتقاتل الفرس ضد الروم، فيما ينضم العرب إلى أحد الفريقين ويكون هذا الانضمام من أجل مصلحتهم؛ ولكن هذا الانضمام لا يكون انضمام التابع إلى سيده، وإنما انضمام يقلب كفة المعركة، فيشهد الجميع بما فيهم كسرى، أو القيصر بفضل العرب عليه وإنقاذهم من الخطر الذي كاد يدمر دولتهم، وهذا تحالف يكون تحالف مصالح لا أكثر.


ويلاحظ أن هذه الصراعات لا تنتهي في شكل حاسم، ما يسمح بتجددها في كل جزء من أجزاء السيرة، ويطغى عليها الصراع العربي مع الدولة الكسروية. فسيرة عنترة ترهص بما هو قادم بوحدة عربية ترفض أن تكون تابعة للفرس أو الروم. ومثال ذلك قول المنذر: "لن أستريح حتى أقيم دولة العرب، وأذل عباد النار واللهب". وتظهر تلك السيرة اعتداد العرب بأنفسهم ورفضهم أن يزوجوا بناتهم حتى لكسرى نفسه. فحين أراد كسرى أن يتزوج المتجردة العبسية، أعلنها العرب حرباً ضروساً كادت تأتي على مُلك الفرس. ويلاحظ أن العلاقة بين العرب والفرس داخل السيرة تبدأ هادئة ثم يصل صراعها إلى قمته، ولكن قبل أن يقضي طرف على آخر يتم الصلح بينهما لسبب أو آخر.

وفي ثنايا سيرة عنترة يلاحظ أن هناك دائماً بشرى بأن حال العرب سيتغير. بشرى بقدوم النبي العربي بدينه الجديد الذي يوحد رايتهم، ويجعل لهم السيادة على ربوع العالم القديم، ويقهر أقوى قوتين في ذلك الزمان: الفرس والروم. فحتى عندما تذكر السيرة يومَ "ذي قار" الذي انتصر فيه العرب على الفرس قبل الإسلام، تجعل هذا الانتصار معجزة من معجزات النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). فما أن كاد الفرس يقضون على العرب في المعركة، إلا وقد جاءهم النصر حين نادوا باسم "محمد". وعلى رغم قوة العرب بفرسانهم الجبابرة وعلى رأسهم عنترة، وعامر بن طفيل، وعمر بن معدي يكرب، وذي الخمار، ودريد بن الصمة ومقري الوحوش، وهانئ بن مسعود، لم يكن بوسعهم التوحد، قبل ظهور النبي الخاتم.

ويشار إلى أن كُتّاب سيرة عنترة كانوا منصفين للفرس، يعترفون لهم بالقوة والتقدم عليهم في البنيان والعمران وفي الأطعمة والألبسة، كما أن تلك السيرة تكشف عادات العرب السيئة مثل الإغارة والسلب، وعبادة الأصنام والأوثان، فكل ذلك تمهيداً لما سيجري على العرب من تغيرات في قادم الأيام بظهور النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). وذلك لا يمنع من ذكر مناقب العرب ومدحهم، فحتى كاتب السيرة كثيراً ما يصف عنترة بفارس العرب، خاصة عندما تكون المعارك أمام الفرس أو الروم، وربما سبب ذلك الإنصاف أن السيرة تتحدث عن العرب قبل الإسلام، ولتأكيد أن الإسلام هو صانع حضارة العرب.

كما أن سيرة عنترة تجعل الصراع الديني صراع هوية، فإن كان العرب يعبدون الأصنام إلا أن فيهم أحنافاً وزعميهم عبدالمطلب بن هاشم جد النبي، وفيهم بيت الله الحرام الذي يعظمونه، وغيرها من الأمور التي تمنعهم من الانتماء إلى إحدى الديانتين المجوسية أو المسيحية، فاتباعهم إحدى الديانتين يعني انضواءهم تحت عباءة الروم أو الفرس، وكيف ذلك لعرب الجزيرة وهم يريدون أن يكون لهم كيان يحفظ هويتهم، لا أن يلغيها كما حدث مع عرب العراق "المناذرة" باتباعهم الفرس، أو مع عرب الشام "الغساسنة" باتباعهم دين الروم، وكانا بذلك أداة لهما في الحروب. فإذا كانت الحروب الدائرة بين الفرس والروم ذات طابع تبشيري، وكل منهم يملك ديناً يحاول أن يفرض من خلال هويته على الآخر، فإن عرب "الجزيرة" كانوا بانتظار دين يعبّر عن هويتهم، ويجعل لهم السيادة على باقي الشعوب.

وفي الكثير من أجزاء السيرة نجد أن صراع عنترة مع أبطال الفرس، هو صراع قومي لا صراع شخصي، وانتصار عنترة على فرسانهم الصناديد هو انتصار للهوية العربية، وفي أحداث السيرة يكون العرب هم أصحاب الفضل على الفرس رافعين العار عنهم لا العكس. كما أن السيرة في أحداثها لا تخفي احتقار الفرس للعرب، إلا أن العرب يكونون دائما قادرين على رد على هذا الاحتقار بفرسانهم الأفذاذ وعلى رأسهم عنترة بن شداد.

وإذا كان البادي من سيرة عنترة أنها صراع عنترة من أجل الحرية، والفوز بابنة عمه عبلة، فإن ذلك لم يكن إلا تكيّة تدفع أحداث السيرة إلى أمام. فالهدف الرئيس من سيرة عنترة هو إعلاء راية العرب، والحفاظ على الهوية العربية. ونلاحظ في هذا السياق أنه حتى حادثة المهر على سبيل المثال لم تكن سوى حيلة لإخراج بطل هذه السيرة من الصراع المحلي مع قومه، إلى صراع أكبر هو الأساس وهو المقصود، ألا وهو الصراع مع العرب التابعين للفرس "المناذرة"، ومع الفرس أنفسهم، وهو ما يحدث بالفعل، وهذا ما توضحه أحداث السيرة. فعلى رغم زواج عنترة من عبلة في الثلث الأول من الجزء الثالث من السيرة، فإن الأحداث تستمر في بقية الأجزاء ويكاد يختفي ذكر عبلة، ونكتشف أن البطل خانها مع أكثر من ثمان سيدات أنجب منهن ولديه وابنته عنيزة، لكن الصراع مع الفرس والروم لا يختفي من السيرة حتى تنتهى في جزئها الثامن والأخير بانتصار العرب وسيادة دين الإسلام.

ويكاد يكون عنترة في هذه السيرة ما هو إلا رمز لحالة العرب في "الجزيرة". كانوا في حالة ضعف كما كان عنترة في بداية حياته. هو كان يبحث عن هويته وحريته وأن يكون له مكانه بين قومه وأن يعترفوا بنسبه العالي، إلا أن سواد بشرته كان عقبة في سبيل تحقيق ما يريد. وهكذا كان حال العرب يحاولون أن تكون لهم مكانة بين الفرس والروم تعبر عن هويتهم الخاصة؛ ولكن القوتين ترفضان الاعتراف بهذه الهوية، فكان عليهم أن يقاتلوا من أجل هذه المكانة والسيادة مثلما قاتل عنترة ونال سيادته وحريته والمكانة العالية والاعتراف ليس من قبيلته فقط بل من العرب قاطبة وكذلك من كسرى والقيصر، أي من العالم كله وقد شهد له بالشجاعة والفروسية. وهو ما تحقق في النهاية أيضاً للعرب بظهور الإسلام، وسيادة هويتهم على غيرها من الهويات.