“رحلات بلا عودة”.. حين تتحول أمنيات المغتربين إلى فاجعة وطن على طرق اليمن المنسية (تقرير)
لم يعد السفر في اليمن مجرد وسيلة انتقال، بل تحول إلى "مغامرة محفوفة بالموت". فعلى مدى سنوات الحرب والإهمال، تحولت حافلات النقل الجماعي التي تحمل المغتربين العائدين من سنوات الكدح والغربة إلى توابيت متنقلة، تختصر مأساة وطن مزقته الحرب وأهملت طرقاته.
هذه ليست مجرد أرقام تُحصى؛ بل هي قصص أشخاص ودعوا الحياة بأسوأ طريقة ممكنة: محتجزين داخل هياكل معدنية تلتهمها النيران في "نقيل العرقوب"، أو متناثرين على منحدرات "طريق العبر"، بعيداً عن أحضان العائلات التي انتظرتهم على أحر من الجمر.
الفصل الأول: أحلام تبخرت في جحيم العرقوب
في نقيل العرقوب الملتوي والمنسي بمحافظة أبين، تبخرت سبع سنوات من الغربة كان يجسدها "سالم" (أحد الضحايا). قبل صعوده إلى حافلة "صقر الحجاز"، أرسل صورة لزوجته: "باقي ساعات قليلة ونوصل، جهزوا العشاء!".
لكن "سالم" لم يعد. عند نزول النقيل، وقع الاصطدام المروع، وبسبب شدة النيران والعطل الفني، انغلق الباب الرئيسي وتصلب، ليجد سالم نفسه محاصراً مع عشرات الركاب في جحيم لا مفر منه.
نقل شاهد عيان من أهالي المنطقة المشهد المروع: "الباص تحول إلى فرن. لم يستطع أحد الهروب. رأيناهم يصرخون والنار تلتهمهم، حتى سكنت الأصوات وبقي الدخان الأسود شاهداً على الفاجعة". لقد تحولت مدخرات سالم وأحلامه إلى رماد، لتصبح زوجته جزءاً من آلاف الأرامل اللاتي خلفتهن هذه الطرق القاتلة.
لعنة النجاة: شهادات الناجين الأحياء
في كل فاجعة، هناك قصص لأشخاص نجو بأعجوبة، لكنهم يحملون ندوباً أعمق من الحروق والكسور: إنها ندوب "لعنة النجاة". هم الأحياء الذين شاهَدوا الموت يتجسد ورأوا رفاق رحلتهم يذوبون أمام أعينهم.
- أحمد: صوت الباب المغلق كان أحمد (35 عاماً)، أحد الناجين من احتراق باص العرقوب، يجلس في المقعد الأخير. يروي كيف تحولت الحافلة إلى وعاء ضغط يمتلئ بالدخان الأسود عندما انغلق الباب بفعل الاصطدام. يقول: "في كل ليلة، أسمع صوت ارتطام الباب وهو يُغلق، وأصوات الصراخ التي حُبست خلفه. أنا حي، لكن الكابوس يقتلني ببطء". لم ينجُ أحمد إلا بركله نافذة صغيرة والقفز منها، ليرى الحافلة تتحول إلى شعلة ضخمة.
- فاطمة: الصمت المخيف على طريق العبر: أما فاطمة (40 عاماً)، التي نجت من حادث تصادم مروع على "طريق العبر" الصحراوي – الشريان الوحيد الذي يربط اليمن بالسعودية – فتتذكر لحظة الاصطدام التي ألقت بها خارج الباص. لم تحترق الحافلة، لكن قوة الاصطدام قتلت السائق وستة ركاب. الأثر الذي لا يمكن محوه هو مشهد الجثث في المقدمة: "كانوا يبدون وكأنهم ناموا فجأة... فقط الصمت المخيف. أشعر أنني لا أستحق النجاة، بينما أولئك الذين ماتوا كانوا أكثر شجاعة مني."
طرق الموت: إهمال وبنية تحتية منسية
تكشف هذه المآسي المتكررة عن أزمة أعمق تُقسّم المسؤولية بين الإهمال الحكومي وفوضى النقل:
• الطرق المتهالكة
الأزمة اليمنية أوقفت مشاريع صيانة الطرق الحيوية، وحولتها إلى فخاخ جبلية وعرة ومقبرة لوسائل النقل الثقيل.
•الفشل الميكانيكي
السبب الجوهري للكوارث هو "الفشل الحراري في نظام الفرامل" الناتج عن الاحتكاك غير المنضبط في المنحدرات (مثل العرقوب)، في ظل غياب الرقابة الصارمة على الصيانة من قبل شركات النقل.
•الإرهاق القاتل
تتسبب نقاط التفتيش والاختناقات المرورية التي تفرضها ظروف الحرب في إرهاق مميت للسائقين الذين يقودون لساعات طويلة دون راحة، مما يزيد من احتمال وقوع حوادث الاصطدام (مثل طريق العبر).
•العزلة القاتلة
غياب مراكز كافية للدفاع المدني والإسعاف في هذه المناطق النائية، مما يعني أن المصابين يُتركون لساعات قبل وصول المساعدة، ويحول الجرحى إلى أموات.
النداء الأخير: متى يتوقف الوطن عن قتل أبنائه؟
تستمر الدعوات للقيادة اليمنية بضرورة تحويل التوجيهات الروتينية بتقديم الرعاية للجرحى إلى خطة طوارئ وطنية دائمة وفورية. فما لم يتم البدء المستدام في صيانة هذه الطرق، خاصة نقيل العرقوب وطريق العبر، فإن قصص الفقد هذه لن تتوقف.
إن الناجين يعودون حاملين معهم ليس فقط جروحهم الجسدية، بل ثقل الذنب وذكريات الجحيم، ليطرحوا سؤالاً واحداً موجعاً على المجتمع: متى يتوقف هذا الوطن عن قتل أبنائه العائدين إليه؟
