«الإبراهيمية» وإعادة إنتاج إسرائيل
بدأت فكرة «الإبراهيمية» في الأساس على شكل «ميثاق إبراهيمي» ظهر عام 1811، ليجمع المؤمنين في الغرب، في محاولة تشمل المسيحيين واليهود، ضمن إطار «الكتاب المقدس» بعهديه القديم والجديد، قبل أن يكتب المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون مقالة سنة 1949 بعنوان «الصلوات الإبراهيمية الثلاث…أب كل المؤمنين» في إشارة للديانات الإبراهيمية الثلاث التي أصبحت حقلاً أكاديمياً قائماً بذاته، ثم أضافت إلى إطارها الروحي الأكاديمي مديات آيديولوجية وسياسية.
ومع نهاية سبعينيات القرن الماضي طور الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر الذي كان متأثراً بكثير من أفكار «الصهيونية المسيحية» طور مفاهيم عن «السلام الإبراهيمي» وذلك بالتركيز على ما أسماه «المشترك الإبراهيمي» بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل، وهي جملة من الأفكار التي طرحها ضمن كتاب له حمل عنوان «دم إبراهيم» في محاولة لخدمة مفهومه للسلام في الشرق الأوسط الذي يهدف للتمكين لإسرائيل في المنطقة.
وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وبعد الحرب على العراق عام 1990 خرج الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب بخطاب عن «النظام العالمي الجديد» وكان ذلك مؤشراً على تشكل «القطبية الأحادية» بصبغتها «الرأسمالية الغربية» التي ستكون إسرائيل طليعتها في المنطقة العربية، مع الترويج للأفكار التي طرحها فيما بعد الرئيس الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، لتكون الولايات المتحدة القطب الأوحد عالمياً، وتكون إسرائيل القطب الأوحد إقليمياً.
ومع استمرار البحث الأكاديمي، وضمن توجهات «النظام الدولي الجديد» أرسلت جامعة هارفارد عام 2000 فريقاً من الباحثين – بدعم من برنامج «أبحاث دراسات الحرب والسلام» الحكومي الأمريكي – إلى دول عربية وتركيا وإيران لدراسة إمكانية أن تلعب الفكرة «الإبراهيمية» دوراً في إحلال السلام في المنطقة، وقد استنتج الفريق محورية شخصية النبي إبراهيم لدى الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، الأمر الذي جعل الجامعة تطرح عام 2004 مشروع «مسار الحج الإبراهيمي» لتصدر بعده عام 2013 وثيقة أطلقها مجموعة من الأكاديميين سميت «مسار إبراهيم» ثم تصدر وثيقة مشابهة عن جامعة فلوريدا عام 2015، تشير إلى «الاتحاد الفيدرالي الإبراهيمي» وغيرها من الجهود المدعومة من طرف الخارجية الأمريكية، لدعم «إدارة الحوار الاستراتيجي مع المجتمع المدني» في دول المنطقة، وهي الاستراتيجية التي أولتها هيلاري كلينتون عناية خاصة، والتي كانت – ولا تزال – تهدف إلى تعويم إسرائيل، وإعادة إنتاجها ضمن نسيج الشرق الأوسط الجديد، الملتف بعباءة «إبراهيمية» وقيادة إسرائيلية.
ولمزيد من تغطية الأهداف السياسية لتلك المبادرات فإنها لم تكن تحمل طابعاً سياسياً، لكنها كانت تتحدث عن قضايا البيئة والمياه والجفاف أو عن الحقوق والحريات أو الديمقراطية والمجتمع المدني، برابط يجمعها، وهو كونها موجهة لمنطقة الشرق الأوسط، أو بالتحديد المنطقة التي تجمع إسرائيل بالدول العربية ما بين النيل إلى الفرات، وهي «حدود إسرائيل التوراتية» حيث لم يكن اختيار تلك المنطقة محض صدفة، لتطبيق مضامين تلك المبادرات التي تم تأطيرها أخيراً فيما بات يعرف بـ»الإبراهيمية».
ويأتي الرئيس السابق دونالد ترامب لتصوغ إدارته فكرة «الاتفاقات الإبراهيمية» التي رعاها بشكل مباشر مستشار الرئيس وصهره «اليهودي» جاريد كوشنر، وهي الاتفاقات الذي أثمرت علاقات دبلوماسية بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، لتخرج للعلن ما سميت حينها بـ«صفقة القرن» وهي جملة من الأفكار تدور حول إعادة إنتاج إسرائيل في المنطقة العربية اقتصادياً وثقافياً وسياسياً وأمنياً، ضمن إطار «الشرق الأوسط الجديد» مع سيطرة إسرائيلية على ثلث الضفة الغربية، وإبقاء القدس موحدة، تحت السيادة الإسرائيلية، والسعي لإقامة دولة فلسطينية «منزوعة السلاح» ضمن الخريطة الإبراهيمية الأكبر التي يُفترض أن تقودها إسرائيل.
والواقع أن هدف «الإبراهيمية» ليس طبع الأديان الثلاثة بطابع روحي إبراهيمي موحد، لكن طبع المنطقة العربية بطابع سياسي إسرائيلي جديد، بهدف إعادة إنتاج إسرائيل دولة رائدة لدى شعوب المنطقة، وإحلال السلام بين تلك الشعوب من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، عبر سلاسل من الحروب الأهلية العربية التي توصل تلك الشعوب إلى الاقتناع بأن إسرائيل أقرب إليها – وأكثر حرصاً عليها – من بعضها، وأن السلام مع إسرائيل أقرب من السلام بين مكونات تلك الشعوب المتناحرة.
وقد تكرس التوظيف النفعي للإبراهيمية الدينية خدمة للإبراهيمية السياسية عبر ما بات يعرف بـ»الدبلوماسية الروحية» وهو المصطلح الذي ظهر مع بداية الألفية، والذي كشف امتزاج «الإبراهيمية» كتوجه روحي وفكري بأهدافها السياسية التي لم تعد تخفى على أحد، حيث تمت الإشارة إلى نصوص دينية معينة في الكتاب المقدس وفي القرآن الكريم مع اجتزائها من سياقاتها التاريخية، لتجيير مدلولاتها بما يخدم إبراز إسرائيل كصاحبة حق في فلسطين، وصاحبة فضل على البشرية، وصاحبة تميز روحي وأخلاقي وسياسي.
ومما يجعل «الإبراهيمية» في صورتها الحالية وسيلة لخدمة المشروع الإسرائيلي أنها في الأصل تلتقي مع «المسيحية الصهيونية» في ثوبها البروتستانتي – إن لم تكن الأولى أصلاً إحدى إفرازات الثانية – التي تنظر إلى التاريخ من خلال الرواية اليهودية في نسختها التلمودية، وبالتالي فهي تختصر الإبراهيمية في الإسرائيلية وتختصر الإسرائيلية في اليهودية، ثم تجعل اليهودية مجسدة في دولة إسرائيل.
وفي هذا السياق نشير إلى الفكرة المخاتلة التي يطرحها بعض «الإبراهيميين» حول توسيع مفهوم «إسرائيل التوراتية» لتشمل «العائلة الإبراهيمية» وهي فكرة تبدو فيها اليهودية وقد قدمت تنازلاً بالتخلي عن التعريف الجيني/العرقي لـ»إسرائيل التوراتية» بشحن هذا المصطلح بدلالات أوسع، تشمل كافة المؤمنين بفكرة السلام والتسامح بين «بني إبراهيم» كلهم بالمعنى الديني، لا «بني إسرائيل» وحدهم بالمعني العرقي، لكن هذه الفكرة المراوغة تحمل في مضامينها أن تُطبع المنطقة كلها بطابع إسرائيلي وقيادة إسرائيلية، على اعتبار أن الديانتين الإبراهيميتين: المسيحية والإسلام هما في الأصل صادرتان عن اليهودية الأم، حسب رؤية «الصهيونية الدينية» التي تمخضت عن «الإبراهيمية السياسية» المعاصرة.
ومع ما طرح من أهداف سياسية للمسارات الإبراهيمية إلا أن هذا لا يمنع وجود مخلصين لهذه الاتجاهات من ناحية روحية تارة أو فلسفية تارة أخرى، فهناك رجال دين متحمسون للفكرة من منطلقات دينية، معنية بنشر ثقافة السلام والتسامح والمحبة والتركيز على المشتركات، كما أن هناك مفكرين يشجعون هذا الاتجاه من منطلق مغاير للمنطلقات التي بنى عليها فرانسيس فوكوياما وصمويل هنتنغتون فلسفاتهم القائمة على صراع الحضارات ونهاية التاريخ، رغم أن التيار الأغلب ضمن هذه «الإبراهيمية» هو التيار الذي يسعى إلى توظيفها من خلال «دبلوماسية روحية» تسعى لتمكين إسرائيل في المنطقة.
ويبدو أن شيخ الأزهر الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب قد تنبه لمحاولات تسييس الإبراهيمية، أو بالأحرى تحول تلك الفكرة عن مضامينها الدينية إلى مضامين سياسية استعمارية تخدم الاحتلال الإسرائيلي، كطليعة للمستعمر الغربي، فنأى بنفسه عنها محذراً منها، كما حذر منها رجل الدين القبطي الراهب القمص بنيامي محرقي بقوله إن «الديانة الإبراهيمية دعوة مسيسة تحت مظهر مخادع واستغلال للدين».
خلاصة الأمر، أنه بعد تلك الجهود التي بذلتها واشنطن للترويج للإبراهيمية الروحية خدمة للإبراهيمية السياسية التي «تهدف لتحقيق السلام بين أبناء إبراهيم في الشرق الأوسط» نجد أن واشنطن اليوم تعطل أي جهد دولي لوقف مذبحة غزة، وهو ما يؤكد أن هدف «الإبراهيمية» لم يكن السلام قدر ما كان التطبيع المجاني العربي مع إسرائيل، وإعادة إنتاجها في المنطقة، على حساب القضية الفلسطينية، وحق الفلسطينيين في دولة مستقلة، وهو الأمر الذي يبدو أن غزة أفسدته على القائمين عليه.
*نقلاً عن القدس العربي