عن مشاورات الحل في اليمن
في مارس 2021 قدمت المملكة العربية السعودية مبادرة للحل في اليمن، شملت وقفاً لإطلاق النار، وفتح ميناء الحديدة ومطار صنعاء إلى بعض الوجهات الدولية، والبدء في مشاورات يمنية يمنية.
الحوثيون حينها رفضوا المبادرة، وقال الناطق باسمهم محمد عبدالسلام حينها إن المبادرة “لم تأت بجديد”، رغم أن المبادرة شملت إجراءات عملية لفتح المطار والميناء.
كان رفض المبادرة مستغرباً، لأن الحوثيين ظلوا فترة طويلة يطالبون بفتح مطار صنعاء وميناء الحديدة، ويجعلون ذلك في صلب أي اتفاق.
العمانيون حاولوا بدورهم إقناع الحوثيين بقبول المبادرة التي لبّتْ الكثير من اشتراطات الحوثيين التي يتبين أنهم كانوا يضعونها لا لتنفيذها، ولكن لوضع العقدة في المنشار.
ذهب وفد عماني إلى صنعاء، في محاولة أخيرة لإقناع الحوثي بقبول المبادرة، غير أن الوفد عاد خالي الوفاض.
وعلى الرغم من أن المبادرة قدمتها الرياض إلا أنها كانت خلاصات لمجموعة من الرؤى والأفكار والإجراءات التي قدمتها أطراف دولية مختلفة في واشنطن ولندن والرياض وأبوظبي ومسقط وغيرها من العواصم، غير أن المبادرة رفضت من قبل الطرف الذي كان يطالب ببنودها.
لم يكن هنالك من تفسير للرفض الحوثي حينها إلا أن “الثعلب الإيراني” دخل الملعب، حيث تبين فيما بعد أن طهران طلبت من الحوثيين عدم الموافقة على المبادرة، لأن النقاشات الأمنية السعودية الإيرانية التي كانت تجري في بغداد آنئذ لم تكن تسير على الطريقة التي تريدها طهران التي أرادت تخريب جهود المصالحة اليمنية، كوسيلة ضغط على السعودية للتجاوب في ملفات إقليمية ودولية أخرى.
أوعز الإيرانيون -إذن – إلى الحوثي أنه في موقع قوة مع قدوم الإدارة الديمقراطية الجديدة حينها إلى البيت الأبيض، ورفعها للحوثي من القوائم الأمريكية للإرهاب، حيث بدا أن الديمقراطيين في واشنطن خصوم ناعمون لطهران وحلفاء خشنون للرياض.
قالت طهران للحوثي إن عليه ألا يستعجل قطف الثمرة، وأنه يجب أن يكثف هجومه على محافظة مأرب الغنية بالنفط والغاز، وبعد أن يحكم السيطرة عليها، يمكنه أن يذهب إلى أية محادثات ومعه برميل النفط وصهريج الغاز اللذان سيجعلانه يفرض شروطه على الطاولة بأريحية.
حينها أطلقت وكالة مهر الإيرانية للأنباء تصريحها الشهير، الذي جاء بلغة مقعرة، لتأكيد قوة الإرادة وكبر الهدف، والذي جاء فيه: “لنصومنَّ غداً في مأرب، ولنفطرنَّ على تمرها”. كان التصريح حاسماً في أن مأرب أصبحت في متناول اليد، وتجاوب عدد كبير من الصحف والمواقع والقنوات ووسائل التواصل الاجتماعي في الحشد للمعركة الإيرانية على مأرب، حتى أن قناة تلفزيونية إيرانية ناطقة بالعربية أكدت أن أياماً فقط تفصل الحوثيين عن السيطرة على عاصمة المقاومة والنفط والغاز.
اشتدت ضراوة المعارك ومرت الشهور دون تحقيق الهدف، واضطرت قنوات إيرانية بعينها لإلغاء مانشتات ثابتة عن تحرير مأرب من الدواعش، فيما بدا أنه يأس من تحقيق الهدف الذي كان مؤملاً أن يعطي لإيران ووكلائها في المنطقة اليد الطولى في أية مفاوضات مقبلة.
وخلال معارك مأرب أفادت وكالة الصحافة الفرنسية نقلاً عن مسؤولين حوثيين أن قرابة خمسة عشر ألفاً من مقاتليهم قضوا في المعارك في الفترة بين حزيران/يونيو وتشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي.
ومع مطلع العام الحالي كانت الضربات تتوالى على الحوثيين في مديريات بيحان وعسيلان وعين التي اندحروا عنها في محافظة شبوة بالإضافة إلى خروجهم من مديرية حريب في محافظة مأرب، الأمر الذي أصبح معه الصوم المتواصل أهون على وكلاء طهران في اليمن من “الإفطار على تمر مأرب”.
ومع ارتفاع كلفة الفاتورة، ومع فشل خطط السيطرة على مأرب، ومع اقتراب طهران والقوى الدولية من الاتفاق في فيينا، بدا لإيران أن وكلاءها ربما كانوا بحاجة إلى القبول بما رفضوه في مارس 2021، وهو ما جاء على لسان ناطقهم ذاته الذي رفض قبل عام مبادرة الرياض.
لا يمكن – ضمن المتغيرات- إغفال ذكر الأصوات التي بدأت تتعالى لإعادة الحوثيين إلى قوائم الإرهاب في واشنطن، كما لا يمكن إغفال قرار مجلس الأمن الدولي 2140 الذي وصف الحوثيين وللمرة الأولى بأنهم “كيان إرهابي”، وأدان “هجماتهم الإرهابية” على الإمارات والسعودية، كما أن تغير الصورة النمطية التي كرستها آلة الدعاية الإيرانية عن الحوثيين قد تغيرت، حيث لم يعد ينظر للجماعة على اعتبار أنها “أقلية مضطهدة”، بل أصبح ينظر لها على اعتبار أنها “جماعة إرهابية”، وهو الأمر الذي راكم الضغوط على تلك الجماعة، وجعلها تعيش مآزق لا تنتهي.
قبول تلك المبادرة قبل عام كان من الممكن أن يمنع الكارثة التي قتل وجرح فيها عشرات الآلاف خلال العام المنصرم، بدلاً من قبول المبادرة بعد تلك الفاتورة المكلفة مادياً وبشرياً
تغيرت الظروف إذن، حيث سبق وقف إطلاق النار الذي أعلن الأسبوع الماضي ووافق عليه الحوثيون، سبقه جهد متواصل للمبعوث الأممي إلى اليمن هانس غدوندبيرغ الذي وافق الحوثيون بشكل مفاجئ على مقترحه لهدنة من شهرين قابلة للتمديد، مع فتح جزئي للميناء والمطار والدخول في مشاورات يمنية يمنية، وهي الفكرة التي كان الحوثيون يرفضونها مشترطين تفاوضاً مباشراً مع السعودية وأمريكا، وليس مع “مرتزقة العدوان”، وهو التوصيف الحوثي لوفد الحكومة اليمنية وهو الوفد الذي لم يكن الحوثيون يتفاوضون خلال الجولات السابقة في سويسرا والكويت واستوكهولم الا معه.
واليوم وبعد سبعة أعوام من الحرب ورفض الحوثيين للجلوس على طاولة الحوار وبعد مئات آلاف القتلى والجرحى وملايين المهجرين والنازحين واللاجئين يوافق الحوثيون على وقف إطلاق النار.
ومع الإعلان عن وقف لإطلاق النار انطلقت مشاورات يمنية يمنية في الرياض بين مكونات سياسية مناوئة للحوثيين لتنسيق المواقف إزاء مفاوضات مرتقبة مع الحوثيين حال وافقوا على الاستمرار في الهدنة والانطلاق في عملية حوار شامل يفضي إلى حل. وفي الوقت ذاته تستمر لقاءات مع وفد للحوثيين يأخذ من مسقط مقراً له للتهيئة لفرصة مواتية للحوار بين الحكومة والانقلابيين.
وبطبيعة الحال، فإن قبول تلك المبادرة قبل عام كان من الممكن أن يمنع الكارثة التي قتل وجرح فيها عشرات الآلاف خلال العام المنصرم، بدلاً من قبول المبادرة بعد تلك الفاتورة المكلفة مادياً وبشرياً، ما كان لهذا لولا تدخلات الإيرانيين في صياغة المحددات السياسية لدى جماعة الحوثي في اليمن.
ومهما يكن، فإن الحوار أفضل من الحرب والموافقة المتأخرة على التفاوض أفضل من رفضه، وأن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي، مع بقاء أسئلة كثيرة معلقة حول أسباب موافقة الحوثيين المفاجئة على مبادرة رفضوها من قبل، وحول مدى إمكانية تغير السلوك الحوثي في التعاطي مع المبادرات، والتعامل معها على أساس أنها فرصة لالتقاط الأنفاس والاستعداد لموجة أخرى من العنف، لا فرصة لوقف الحرب وإحلال السلام.
ما من شك في أن الحل قبل سنوات كان أيسر منه الآن، وما من شك في أن طهران ستستمر في تخريب أية محاولة للتقارب بين اليمنيين، غير أن الحل كلما اقترب من الدائرة اليمنية، وكلما كان أقرب إلى روح الحل العربي، فإن ذلك سيكون أكثر نجاعة من حلول يفرضها مسؤول دولي قادم من سياقات ثقافية وسياسية وأيديولوجية مختلفة، ولعل الحل كلما ابتعد عن التدويل واقترب من الداخل الوطني، أو الخارج العربي كان أقرب إلى روح اليمنيين، ولنا في المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية مثال واضح على نجاعة الحل الوطني والعربي في اليمن، في مقابل التيه الذي نعيشه اليوم، بفعل تدويل الأزمة اليمنية، الأمر الذي أدخلها في لعبة توازنات ومصالح دولية لا تنتهي.