بين “الآخر المذهبي“ و“الآخر الديني“
كان لسيطرة فكرتي «الحق الإلهي» و«الاصطفاء الإلهي» على تيارات «التشيع السياسي» القديم أثر بالغ في توجه تلك التيارات نحو تطبيق «فريضة الخروج لأخذ الحق» ضد السلطات الحاكمة التي نفذت ـ بالمقابل ـ على تلك التيارات ملاحقات مدمرة بهدف القضاء عليها، وهو ما تسبب في كثير من المجازر التي تعرض لها أولئك الخارجون بالسلاح على السلطة السياسية حينها.
ولضراوة ما لقيت تيارات «الخروج» من ويلات، بسبب اعتقادها بأفضليتها وأحقيتها، مالت إلى الموادعة الظاهرية، وطورت مبدأ «التقية الدينية والسياسية» للاحتفاظ بفكرتي «الحق والاصطفاء» عند مستواهما النظري الذي لا يجلب بطش السلطة الحاكمة.
ومع الزمن عزفت تلك التيارات ـ ولو مؤقتاً ـ عن أية محاولة لـ«الخروج» المسلح، وتطورت ـ في المقابل ـ فكرة إرجاء «الدولة الشيعية العادلة» إلى حين خروج «الإمام المهدي المنتظر» على اعتبار أن أية دولة لا يكون «المنتظر» على رأسها هي في الأصل «دولة ناصبية ظالمة» وقد استُهدِفت بهذا التوصيف سلطات الأمويين والعباسيين وغيرهم ممن هم خارج اللون المذهبي لأصحاب فكرة «الحق الإلهي» الذين تنبهوا لاحقاً إلى «الورطة» الفقهية والسياسية التي وقعوا فيها، بمنع قيام دولتهم قبل ظهور المهدي، لما في ذلك المنع من تعارض مع النزوع البشري الفطري للسلطة والثروة.
ولما طال الأمد، ولم يخرج المهدي، أرادت بعض قوى «التشيع السياسي» ألا تفوّت فرصة الوصول إلى السلطة بأي شكل، ومن هنا بدأت فكرة «نائب الإمام» للشؤون السياسية العامة في الظهور في الفقه السياسي الشيعي، في مقابل فكرة «نائب الإمام» للقضايا الفقهية الخاصة، وهي وظيفة «المرجعيات» المختلفة.
ولما جاء الصفويون (وهم شيعة إماميون) طوروا فكرة «نائب الإمام» لإضفاء المشروعية الدينية على «شاهاتهم» باعتبارهم «نواب الإمام» في مواجهة المشروعية الدينية لـ«خلفاء النبي» من السلاطين العثمانيين. ومع قيام الدولة الصفوية على مشروعية دينية شيعية إمامية، عادت فكرة «الحق الإلهي» و«الجهاد» مرة أخرى للواجهة، ولكن ضد «الآخر المذهبي» العثماني الذي حاول الصفويون التوسع على حساب سلطته، كما فعل الفاطميون (وهم شيعة إسماعيليون) من قبل عندما كرسوا «جهادهم» ضد «الآخر المذهبي» العباسي، وفي الحالين لم يتوسع الصفويون ولا الفاطميون باتجاه أراضي «الآخر الديني» غير المسلم، وهو ما يعكس طبيعة فهم سلطات «التشيع السياسي» لهذا الآخر العدو.
ثم جاء الخميني بعد قرون، ومضى في التأصيل لفكرة «نائب الإمام» التي بموجبها يحق لـ«الولي الفقيه» أن يشغل منصب نيابة الإمام المهدي، موفِّقاً بتلك الفكرة بين الحنين الشيعي الدائم لقيام دولة، وبين المقولات الشيعية التقليدية التي ترى أن أية دولة لا يكون على رأسها «الإمام المهدي» هي بالضرورة دولة «ظالمة» ومن هنا أمكن خروج الفقه السياسي الشيعي من ورطته المذكورة.
ومع خروج هذا الفقه من مأزقه التاريخي بتطوير فكرة «نائب الإمام» تعمقت بشكل أكبر المقولات القديمة حول «الحق الإلهي» و«مشروعية الخروج» وتلقفتها تيارات «التشيع الجهادي» المعاصر، التي طورت بدورها فكرة «الآخر المذهبي» في مقابل فكرة «الآخر الديني» التي تطورت في سياقات مختلفة لدى تنظيمات ما بات يعرف باسم «الإسلام الجهادي» السنية.
ومع سيطرة فكرة «الآخر المذهبي» على سلوكيات ميليشيات «التشيع الجهادي» تم استحضار صور تاريخية مختلفة لهذا الآخر مثل «الآخر الأموي/العباسي/العثماني» وهو «الآخر الناصبي» الذي تم أخيراً إعادة إنتاج صورته ليصبح على هيئة «الآخر الوهابي/الداعشي/الإرهابي» الذي يمثل في الواقع «الآخر السني» رغم أن تلك الميليشيات ـ على مستوى الخطاب ـ ترفع شعار «الآخر الديني» المتمثل فيما أطلق عليه: «قوى الاستكبار العالمي وأمريكا وإسرائيل واليهود».
أما بالنسبة لتنظيمات «الإسلام الجهادي» فقد ركزت ـ على مستوى الخطاب والممارسة وبشكل أكبر ـ قبل غزو العراق في 2003 على «الآخر الديني» المتمثل في ما أطلقت عليه تلك التنظيمات «التحالف الصليبي اليهودي» ولم يكن «الآخر المذهبي» ـ حاضراً بشكل بارز ـ في خطاب أو ممارسات تلك التنظيمات، إلا بعد الغزو الأمريكي للعراق والتدخل الإيراني اللاحق اللذين تضافرا في تفجير حرب أهلية مأساوية بين السنة والشيعة، لا تزال أصداؤها تتجاوب ـ ليس في العراق وحده ـ بل في المنطقة برمتها، حيث طورت جماعات مثل القاعدة و«تنظيم الدولة» خطاباً وممارسة برز فيهما «الآخر المذهبي» إلى جانب «الآخر الديني» الذي يمثل العدو المحوري لهذه التنظيمات.
ولكن، ومع استمرار الملاحقة الدولية لتنظيمات «الإسلام الجهادي» ومع التغاضي عن ميليشيات «التشيع الجهادي» خفتت ـ إلى حد ما ـ فكرة «الآخر الديني» التي طورتها تنظيمات «الإسلام الجهادي» لتتقدم عليها فكرة «الآخر المذهبي» لدى تلك التنظيمات، وتتصادم مع فكرة «الآخر المذهبي» لدى ميليشيات «التشيع الجهادي» ولتتسق مع ما يمكن رصده من رضى دولي خفي لتكريس هذه الفكرة لدى المسلمين ـ سنة وشيعة ـ لاستمرار النزيف الطائفي في المنطقة التي أنهكتها الحروب الأهلية المستمرة.
وفي هذا الشأن، يمكن القول إن ميليشيات «التشيع الجهادي» قد استفادت في استهدافها لـ«الآخر المذهبي» السني من وجود انتقائية دولية في تصنيف التنظيمات الإرهابية، وهو التصنيف الذي يبدو أنه يأخذ في عين الاعتبار دين أو مذهب أو عرق «الفئات المستهدَفة» الأمر الذي أدى إلى التغاضي الدولي عن جرائم ميليشيات «التشيع الجهادي» إلا فيما ندر، وبشكل لا يؤثر على التوجه العام في الحفاظ على الدور الوظيفي لهذه الميليشيات وداعميها في إنهاك الجسد العربي والإسلامي، بدوافع طائفية، لا يصل أثرها إلى «الآخر الديني» بل ينحصر على «الآخر المذهبي» الذي يعد العدو الحقيقي في أدبيات «التشيع الجهادي» باعتبار هذا الآخر امتداداً لقتلة الإمام الحسين الذين تتم ملاحقتهم اليوم في اليمن والعراق ولبنان وسوريا، في ظل صمت دولي لا يهتم ـ غالباً ـ إلا باستهداف التنظيمات المتطرفة المنسوبة للسُّنة، مثل القاعدة وداعش وغيرهما.
إن فهم طبيعة هذه الانتقائية الدولية لا يمكن أن يكون بعيداً عن تاريخ الصراع المرير بين الشرق والغرب، والذي كان صراعاً بين الغرب المسيحي من جهة والمكون الإسلامي الأغلب من جهة أخرى، بدأً من معارك الفتوح الإسلامية، ومروراً بالحملات الصليبية المسيحية، وليس انتهاء بمعارك التحرر الوطني ضد الاستعمار الغربي الحديث، وهو ما يسلط الضوء على المنحى الدولي لإلقاء مسؤولية الممارسات الإرهابية على تنظيمات «الإسلام الجهادي» السنية ـ إجمالاً ـ ليتسنى منعها من استهداف المصالح الدولية من ناحية، ولإعادة توجيه الصراع باتجاه الداخل العربي والإسلامي، بعيداً عن استهداف المصالح الدولية.
وإجمالاً، يمكن القول إن فكرة «الآخر» لدى تنظيمات «الإسلام السياسي» تنصب ـ غالباً ـ على «الآخر الديني» غير المسلم، بينما تتركز فكرة الآخر لدى ميليشيات «التشيع الجهادي» ـ في الأغلب ـ على «الآخر المذهبي» غير الشيعي، وهو الأمر الذي كان له أثره في مسارات الصراع في المنطقة من جهة، وعلى نظرة المجتمع الدولي لهذا الصراع من جهة أخرى.