هربوا جا الليل

بسقوط «اليمن الأسفل» بيد جحافل الفيـد الإمامي، انكمشت الأماني، وتراجعت الأحلام، وصارت «الغُربة» خيار الجميع المـُر، رفع «الأئمة الزيود» من وتيرتها، ضيقوا على «الرعية الشوافع» أيما تضييق، أجبروهم على الرحيل والمغادرة، في مشهد مؤلم، تكرر بكثافة طوال عهدهم البائس، ولم يبق في القرى الخضراء سوى «الشيوخ، والأطفال، والنساء»، يندبون حظهم العاثر، ويشكون لله ظلم الإمام، وجور العساكر، ويبكون فراق «الأب، والابن، والأخ، والزوج». 
     
الرحلة لم تعـد «شتـاء» أو «صيـف»؛ بل صارت في كل الفصول، ومسكونة بالجوع والخوف، وكأنه قدرنا «مزقناهم كل ممزق»، وحين جاء الأئمة من بيت «حميد الدين»، مزقوا الشعب اليمني شرَّ تمزيق، وسلبوه كل شيء حتى الكرامة، وكان عهدهم حسب توصيف الشهيد محمد أحمد نعمان: «قاتم النظرة للوجود، بطبيعة قادته القادمين من المغارات والكهوف، والجبال الجرداء السوداء، وعناء المعركة الطويلة المدى مع الأتراك، والثقافة الشيعية الحاقدة على الوجود».
     
من اللحظات الأولى لاجتياح عساكر الإمام يحيى مناطق «اليمن الأسفل» بقيادة «الذئب الأسود» علي الوزير، وقع «الرعية الشوافع» بين خيارين كلاهما مُر: البقاء أو الرحيل، وحين وزع الطاغية بنيه «سيوف الإسلام» على أعمال اليمن، اشتد الظلم، وعمَّ البلاء، وفي ذلك قال الشهيد محمد محمود الزبيري:
والشعبُ في ظِلّ السيوفِ ممزقُ الـ
أوصالِ, مضطهدُ الجَنابِ يضامُ
وعليه إمَا أنْ يُغادرَ أرضَهُ
هرَباً وإلا فالحياة حِمامُ
      
وبلغة التعزي الموجوع ترجم الشاعر أحمد الجابري ذلك المشهد المؤلم بغنائية حزينة، فيها دعوة صريحة للهروب من جحيم الأئمة وعساكرهم، قال فيها:
المطر يسكب
مو يفيد نصرب
والذئاب تقرب
هربوا جا الليل      
في مذكراته تحدث المناضل عبدالغني مطهر العريقي عن رحلته الأولى إلى المهجر نهاية العام «1932م»، وعمره لا يتجاوز الـ «12» ربيعاً، وهي تفاصيل طويلة اختزلت جُلَّ المعاناة، شبه بلده بالسجن الكبير الذي «نسجت جدرانه عناكب الحكم الإمامي، فاختنقت الحريات في شباكه، وأهدرت في براثنه كرامة المواطنين».
       
وفي «أنته الأولى» خاطب الأستاذ أحمد محمد النعمان السلطات الإمامية قائلاً: «لقد صبرنا حتى سئمنا الصبر، وسئمنا للصبر نفسه، وكادت الشعوب التي ملأنا أرصفتها، وموانيها، وشوارعها أن تجأر بالشكوى، وتصيح بملء فيها من عناء احتمالنا، ومزاحمة سكانها».
     
وأضاف: «لقد خجلنا من المقام في الغربة، عالة على الأجانب، نتقلد أشق الأعمال وأتفهها، وبلادنا الغنية بثرواتها ومعادنها وخيراتها كانت أحق بجهودنا وكدّنا وتعبنا لو وجدنا مجالاً للعمل، فإلى متى ترضون لرعاياكم الاستمرار على هذه الحالة المحزنة ينتظرون فضلات الأمم، ويستجدون الشعوب».
      
وأردف: «من ينكر اليوم أن سيل الهجرة الجارف يجتاح الرجال والأطفال والشبان، وعصي الجوع تسوقهم وسوط الظلم يشردهم ويُنفرهم، فهل من عطف وإشفاق؟ هل هناك عدل يعود الناس إلى ظله، ويتدثرون بُبرده، أم الحالة لا تزال هي هي، ورجال الظلم هم هم.. إننا لم نفضل الغربة على الإقامة عن رضى واختيار؛ بل هاجرنا عن ضرورة شديدة كادت أن تودي بنا».
      
أجبرت الظروف بعض أولئـك الهاربين على الالتحاق بـ «الجيش البريطاني»، و«الجيش الإيطالي»، وبنشـوب الحرب العالمية الثانية حلَّت الكارثة، وحـَدث أن تقاتل «الأخـوة» تحت راية تلك الـدول المـُـتصـارعة، ولا أروع من توصيف الشاعر محمد أنعم غالب لذلك المشهد المؤلم، حيث قال:
حـاربت لا دفاعاً عن وطن
حـاربت من أجل الرغيف
بجـانب الفاشيست
وفي الليالي السـود بين الدم واللهب
رأيت لي صحاباً.. كانـوا من اليمن
في الجانب المـُضـاد
حاربتهم وحاربـوني
لا دفاعاً عن مثـل
وكان لا يهم من يعيش أو يمـوت
ولا يهم قاهـر أو منكسر 
      
ما يطمس ذلك الوجع أنَّ بعض هؤلاء الهاربين كان لهم عظيم الأثر في دعم ومساندة الحركات التحررية في الداخل اليمني، وقد لمعت أسماء كثيرة لمهاجرين قدموا الكثير في سبيل انتصار القضية، واستعادة الكرامة، وقد سجل الأستاذ سعيد أحمد الجناحي أدورهم باستفاضة بالغة في كتابه الموسوم: «أوائل المغتربين وحكاية العبور إلى الوطن».
      
يقول «الجناحي»: «لا شك أنَّ مسار المغتربين اليمنيين تميز بخصوصيات لم تتوفر عند غيرهم، حين تجاوزت هجرتهم من أجل الذات إلى هموم الوطن، ومشاركتهم في حركة التغيير التي كانت هم كل القوى الوطنية، لذا برز دورهم في خضم الأحداث الوطنية، مما حدد مكانتهم في أدبيات الحركة الوطنية التي زخرت بتسجيل تضحياتهم، ومواقفهم، وأدوارهم، فأضحت جزءاً من تاريخ الثورة اليمنية». 
      
كانت أغلب بلـدان الله مَحط رحال، ومهوى أفئـدة، وكانت عـدن المدينة، والحبشة الدولة، الأقرب للجوء اليمنيين الاضطراري، تشاركهما عديد دول «إفريقية»، و«أوربية»، وإن بنسبة أقل، انقادت إليها خطاهم بلا توقف، واستقبلتهم بلا عراقيل، ككائن أدمي مُرحب به، أنشأوا فيها مستوطنات يمنية، ونظموا أنفسهم، واحتكوا بثقافتها، ولم يعودوا يفكروا بالعودة حتى تعود العدالة، والكرامة المسلوبة.
      
بعد تولى الطاغية أحمد الإمامة بداية العام «1948م»، أرسل الشيخ محمد سالم البيحاني إليه بقصيدة ناصحة، مهنئاً إياه بـ «النصر»، ناثراً فيها بعض المطالب الإصلاحية، ومما جاء فيها:
وجميع ما نرجوه من فضل الإمام
هو المضي بمجده المعهود
في فك مسجون ورد مهاجر
ترك البلاد وعاش بين هنود
       
مع نهاية العام «1959م» توجه الاستاذ أحمد محمد نعمان من القاهرة إلى عدد دول المهجر بغرض التعرف على أحوال المهاجرين فيها، وجمع تبرعات لإنشاء «كلية بلقيس» كصرح تعليمي يلم شتاتهم، ويربط أولادهم بوطنهم الأم، وفي ليبيا التقي بعدد منهم ممن سبق والتحقوا بالجيش الإيطالي في الحبشة، حيث قادتهم «الدولة الفاشية» لمحاربة إخوانهم العرب، إلا أنَّهم أنظموا إلى صفوف الثوار، وقاتلوا تحت قيادة البطل العربي الشهير عمر المختار.
      
وجدهم «النعمان» وأقرانهم في تونس «راضون عن أحوالهم ومعيشتهم، لا يفكرون بأمر اليمن، ولا يخطرونها على بالهم»، وبالنسبة لليمنيين المتواجدين في المغرب، فقد سجل «النعمان» إعجابه الشديد بهم، وبأحوالهم، فهم حد وصفه مهتمون بالتعليم، شديدو الحنين لليمن، وقدر عددهم في «الدار البيضاء» وحدها بحوالي «1,000» مهاجر. 
       
إحصائيات اليمنيين في باقي البلدان لم تكن دقيقة في ذلك الوقت، وسأكتفي هنا بذكر أهم بلدين توفرت إحصاءاتهما، الأولى «بريطانيا»، وقد بلغ عدد اليمنيين فيها في العام «1946م» حوالي «60,000»، والثانية «الحبشة»، حيث قدر عدد المهاجرين فيها بأكثر من نصف مليون، وما يميز اليمنيين في هذا البلد أنهم انشؤوا مدرسة كبرى، تخرج منها الآلاف، أشهرهم الأديب محمد عبدالولي الذي خاطب أقرانه ذات «رواية»: «لا تنسوا أنتم.. أن هذه الأرض لن تنفصل عنكم، مهما هربتم، إنها جزء منكم، تطاردكم، ولا تستطيعون منها فكاكا، أنتم يمنيون في كل أرض.. وتحت كل سماء..».
      
غير الجنون، ثمة مآسي كثيرة عاد بها بعض أولئك الهاربين، ولا أقسى من عاهة مستديمة استوطنت أجساد كالحة، وحولتهم إلى بقايا روح مهزومة لا تعرف للأمل طريق، حينها وجد أولئك النسوة القابعات في خانة الانتظار أنفسهن في وضع بائس لا يطاق، وترددت همساتهن بنبرات مكلومة: «ليته لم يعد»!!.
      
لم تعد تجدي توسلات «ارجع لحولك»، ولا أماني «وعد اللقاء حان، اليمن تنتظركم يا حبايب بالأحضان»، فقد حل محلهما: «باعدوا من طريقنا»، و«مهلنيش بين الهنا والافراح»، ويحسب لـ «العبسيان» أيوب طارش، ومحمد أحمد عبد الولي براعة حفر أوجاع الاغتراب في تراثنا الفني والأدبي، وتطبيب ذات الجرح النازف بالكثير من الابداع، وإن كان الأول غني عن التعريف، فإن الأخير ذو السيرة المُوجعة معني بالتعريف، فهو ابنٌ لأحد الأحرار من أم حبشية، وحين قرر العودة إلى الوطن سجن في «الشمال»، ومات مقتولاً في «الجنوب»، وعمره لا يتجاوز الـ «34» ربيعاً.
      
يقول «عبدالولي»: «نحن اليمانيين مكتوب علينا أن نهاجر ونهاجر.. بلادنا ليست لنا، هذه حقيقة تاريخية.. إن لعنة ذو يزن تطاردنا وستظل تطاردنا.. نحن غزاة غيرنا، سيوف غيرنا، بناة بلاد أخرى، هذه الجبال اللعينة عليها أن تسحق أن تذوب لأنها لا تحمي إلا من يماثلها في الكآبة والفراغ، جرداء هي وجبالها وجرداء هي عقولها وعواطفنا.. ماذا نستطيع أن نعمل؟؟ طاحونة هائلة تبتلع وتبتلع، لا أمل سوى أن نذهب بعيداً، لعلنا هناك نستطيع أن نعمل..».
      
مثـلَّ الأديب «عبدالولي»، صاحب: «يموتون غرباء، صنعاء مدينة مفتوحة، الأرض يا سلمى، شيء اسمه الحنين، عمنا صالح»، نقطة أولى وفارقة في تصوير مألات الغربة، وقساوة الاغتراب، استحضر بروائعه المـُغلفة بالحنين، وقائع قاسية لأحـوال اليمنيين في المهجر، وتفنن في تصوير غشـم السلطة الاماميـة وعدائها للمجتمـع، كما نقل بدقة طبائع الصراع الاجتماعي والسياسي الدائر، وجسد تـوق الشعب اليمني إلى كسر سجن الطغـاة، وبنـاء عـالم أفضل.
      
يقول بطل روايته «صنعاء مدينة مفتوحة»: «إننا لا نستطيع عمل شيء لأنفسنا.. ولا أرضنا.. ولا حتى لهؤلاء العساكر.. إذا لم نخلق من جديد.. نخلق كل شيء.. الناس.. الأرض.. الوادي.. حتى أنفسنا، أننا لا نستطيع أن نعيش مع الحمير في حظيرة واحدة، لا أن نعامل معاملة الحمير، يجب أن نجد لأنفسنا مفهوما.. وأن نعرف حقيقتنا».
     
لم يرد «عبدالولي» من القراء أن يتعاطفوا مع أبطاله، الذين تتقاطـع أنفاسهم وأرواحهـم مع واقعهم الكئيب، سواء في «الداخل» أو في «الخارج»؛ بل وتـدخل غالباً في تناقضات رهيبـة للخلاص منه، إنما أراد من القـراء المشاركة في الحـدث، وأن يتحولوا إلى أحرار عمليين، بما يشبه الدعوة إلى الثورة، وهو ما كـان، وسوف يكـون.

مقالات الكاتب