أحلام السيطرة الإيرانية من الشاه إلى الخميني
خلال عقود طويلة من محاولات حكام إيران على مرّ التاريخ الهيمنة على الشرق العربي، كانت هناك حقيقة مرة تقف أمامهم، وتمنع تقدمهم للسيطرة على موارد الشرق العربي وقيادته. كان الشاه يشكو بمرارة من عدم قدرته على قيادة شعوب المنطقة، الأمر الذي ذكر له مستشاروه أنه في غاية الصعوبة، لسبب بسيط وواضح، وهو أن «إيران شيعية والعرب سنة»، على وجه الإجمال. يذهب الشاه للتساؤل: وما السبيل إلى تجاوز تلك العقبة، فيجيئه الجواب: ذلك ممكن في حالة واحدة، وهي: «أن تتسنن إيران أو يتشيع العرب»، وهي المهمة المستحيلة في نظر الشاه.
ومرت العقود ولم يتحقق حلم الشاه ومَن قبله من حكام إيران في السيطرة على المنطقة وقيادة العالم الإسلامي، للسبب الجوهري المذكور، ولصراع القوميات القديم.
وجاء الخميني الذي كان مدركاً للحقيقة المرة التي عانى منها الشاه وأسلافه، وعارفاً بالحالة الوحيدة التي يمكن، من خلالها لإيران أن تبسط نفوذها كقوة إقليمية، وهي «تسنيين إيران أو تشييع العرب»، وذهب إلى خيار «تشييع العرب»، المغاير لحقائق التاريخ والجغرافيا، والذي غلَّفه الخميني بمادة أساسية من مواد الدستور الإيراني، وهي المادة التي تنص على وجوب «تصدير الثورة الإسلامية»، حسب نص الدستور، ظناً من الخميني أنه يمكن أن يجعل ثورته عالمية، بعد قيادة العالم الإسلامي، الذي سيحدث فيه تجانس ديني، يغير موازين القوى الطائفية لصالح مشروعه في «الحكومة الإسلامية العالمية»، وهي الرؤية التي لا تخلو من أحلام مثالية، غالباً ما تولد في المخيال الديني، عندما تشوبه شوائب الأيديولوجيا في إطاراتها السياسية.
لا بد أن الخميني كان مُلمَّاً بتجربة الصفويين في تحويل إيران من «التسنن» إلى «التشيع» بالقوة، كما ورد في تاريخ إيران الوسيط. وبناء على ذلك، ولكي يمضي الخميني قدماً في تنفيذ مخططه، لوحظ أنه اهتم كثيراً بـ»تصدير الثورة» عبر الحدود الغربية -لا الشرقية – لإيران، وهي الحدود مع الدول العربية، ما يشير إلى رغبته المغلفة في تحقيق حلم الشاه، في السيطرة على العالم العربي، بمراكزه المقدسة، وهو الحلم الذي مات من دون أن يتيسر له تحقيقه، في ما تمكن الخميني وورثته من بعده من قطع شوط لا بأس به جهة تحقيق هذا الحلم الموارَب القديم.
ولكي يتسنى للخميني العمل على تصدير ما يراه «تشيعاً»، في لباس ما يراها «ثورة إسلامية»، تحت مبدأ «ولاية الفقيه»، فقد أصر- أولاً- على التأسيس لتطييف المجتمع السياسي والشعبي في إيران، وحرص على أن يكون ذلك ضمن نصوص دستورية ترقى إلى مستوى القرآن، حسب نظره، لأنها كما يؤكد «مأخوذة عن القرآن» نفسه.
ولكي يكون الانطلاق للخارج قوياً، لابد من ضمان الأسس الداخلية للانطلاق، بالعمل على تضمين الدستور الإيراني مواد تؤسس لتحويل المجتمع إلى لون مذهبي واحد، الأمر الذي نراه واضحاً في هذا الدستور، الذي ألزمت «المادة 115» منه الرئيس الإيراني بأن يكون مؤمناً، وعلى «المذهب الشيعي الجعفري»، وألزمت «المادة 121» الرئيس بأن يؤدي القسم التالي لكي يتولى مهام منصبه: «أقسم بالله أن أكون حامياً للمذهب الرسمي للبلاد». وهذه إشارة إلى أن «المذهب الجعفري الإثني عشري» في إيران فوق الدين، الذي هو الإسلام حسب الدستور الإيراني. وفي إشارة طائفية واضحة تشير «المادة 13» من الدستور الإيراني إلى أن «الإيرانيين الزرادشت، واليهود والمسيحيين هم الأقليات الدينية التي يحق لها وحدها حرية ممارسة شعائرها الدينية»، مع إغفال واضح لذكر «المسلمين السنة». ومن خلال تلك النصوص الدستورية الفاقعة في تطييف العمل السياسي في إيران، أراد الخميني أن يثبت رؤيته الخاصة للتشيُّع داخل إيران، لكي يمهد بذلك للمادة الخطيرة في دستور إيران، التي تنص على وجوب «تصدير الثورة الإسلامية»، بمفهوم الخميني الذي لا يرى التشيع إلا في «ثورته»، ولا يرى الثورة إلا في «ولاية الفقيه»، التي يعارضها أغلب مراجع الشيعة الكبار في العالم العربي، ولا يؤيدها إلا أتباع «التشيع السياسي» في المنطقة.
ونحن عندما نرى أن الإيرانيين يحرضون على تصدير الثورة/ولاية الفقيه، خارج حدودهم الغربية، من دون أن يذهبوا إلى تصديرها خارج حدودهم الشرقية، فإن ذلك يعطينا انطباعاً واضحاً بأن المستهدف من تصدير الثورة هم العرب، وأن الهدف من تلك الثورة هو نشر التوترات الطائفية في العالم العربي، ليتسنى لإيران إحداث «فوضى طائفية»، للتمكن من إخضاع دول المنطقة بضرب نسيجها الاجتماعي، بأذرع إيران المليشاوية المسلحة، كما هو حاصل في العراق وسوريا واليمن، وتخريب بنيتها السياسية، في دول أخرى عن طريق أذرع إيران في تيارات «التشيع السياسي»، كما هو حاصل- في أوضح صوره- في لبنان.
ليس الغرض- إذن- من مبدأ «تصدير الثورة» في الدستور الإيراني خدمة «مذهب التشيع»، قدر ما هو نشر «مبدأ ولاية الفقيه»، الذي فُصِّل ليخدم النظام في طهران، وليس الهدف من المبدأ خير ونفع الشعوب العربية، التي تحاول إيران استهدافها بتصدير ثورة الخميني إليها، ولكن تخريبها تمهيداً لإخضاعها لهيمنة طهران. ونحن إذا ألقينا نظرة عجلى على أوضاع البلدان التي تعاني من التدخل الإيراني، فسنجد أن هذا التدخل لم يجلب إلى تلك البلدان المدرسة والمستشفى والطريق المعبد، والاستثمار في البنية التحتية، بل على العكس، فإن المال الإيراني أصبح داعماً للفتن الطائفية، والحروب الأهلية، وتخريب المنظومات السياسية والاجتماعية، في مؤشر واضح على نية طهران من وراء «تصدير الثورة»، ومفهوم إيران لهذا المصطلح الذي يندرج ضمن سياقات التشيع السياسي لا الديني، أو سياقات التشيع الصفوي الاستعماري، لا التشيع العلوي الإيماني، أو لنقل إن مفهوم إيران لمصطلح «تصدير الثورة» يأتي في سياقات الأطماع السياسية للخميني، لا القيم الدينية للحسين الذي استنزفت شخصيته الأدبياتُ السياسية والأيديولوجية الإيرانية لخدمة أغراضها السياسية، داخل إيران وخارجها، وهو الأمر الذي بدأ الإيرانيون أنفسهم يدركون خطورته على بلادهم نفسها، ما جعل مئات آلاف الإيرانيين يخرجون- كل ما عنَّت مناسبة- في تظاهرات عديدة يحرقون صور الخميني وخامنئي، ويهتفون: «تسقط ولاية الفقيه».