في حضرة «الربيع العربي»
يحاكم في الأردن في الوقت الراهن أربعة من المثقفين والسياسيين البارزين بتهمة المساس بكرامة الملك، والتشجيع على القيام بأعمال غير مشروعة من شأنها تقويض نظام الحكم. والأربعة يمثلون مختلف الاتجاهات في المملكة -العشائرية والليبرالية والإسلامية واليسارية- وفهمت مما نشر عن القضية أنهم كانوا ضيوفا على أحد البرامج التليفزيونية، وقال بعضهم كلاما جريئا تجاوز السقف المتعارف عليه، الأمر الذي أدى إلى توجيه تلك التهم الكبيرة إليهم، كما أدى إلى حجب القناة وتقديم الضيوف إلى محكمة جنايات عمان، بعدما ضم إليهم مالك القناة الخاصة ومقدمة البرنامج.
هذا الذي حدث في الأردن له نظيره في مختلف الدول الخليجية بوجه أخص التي شهدت خلال الأشهر الماضية حوارات وتعليقات تجاوزت السقوف المتاحة، الأمر الذي أدى إلى مساءلة عشرات المثقفين والشبان والفتيات الذين رفعوا أصواتهم، وعبروا عن انتقاداتهم للأوضاع القائمة بصياغات مختلفة ضاقت بها صدور المراجع العليا. وتتداول الدوائر المعنية بحقوق الإنسان في الاتحاد الأوروبي والعالم العربي قوائم بأسماء هؤلاء الأشخاص في السعودية والإمارات وسلطنة عمان والبحرين. والقاسم المشترك بين الجميع هو اتهامهم بالمساس بأهل الحكم والخروج على طاعة أولى الأمر، وفي بعض الدول أضيفت اتهامات أخرى، منها الانتساب إلى التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين والعمل لحساب جهات خارجية (يقصد بها إيران).
لست في مقام الدفاع عما صدر عن أولئك الأشخاص، خصوصا إذا كان قد تجاوز النقد السياسي الموضوعي ولجأ إلى الإهانة أو التجريح. لكني لا أستطيع أن أتجاهل دلالة بروز ظاهرة الجرأة في التعبير خلال العام الأخير، وتزامنها مع تجليات «الربيع العربي» في خمس دول عربية، تم فيها تغيير الأنظمة القائمة أو أشهرت على الملأ فيها الرغبة في التغيير، (كما حدث في سوريا). الأمر الذي يؤيد ما ذهبت إليه وتحدثت عنه في أكثر من محفل، من أن «تسونامى»
التغيير أقوى بكثير مما نظن، حيث ترددت أصداؤه في العالم العربي بأسره.
وبعض تلك الأصداء ظهر فوق السطح، والبعض الآخر لا يزال يتفاعل تحت السطح. وما يحدث في الدول الخليجية من ذلك الصنف الأخير، وليس بعيدا عنه ما يحدث في الأردن والجزائر أو في السودان وموريتانيا.
صحيح أن الدول التي تم فيها التغيير هي التي لفتت الأنظار وأثارت الانتباه، إلا أن التجاوب السريع مع تلك الرغبة الذي ترددت أصداؤه في أنحاء العالم العربي بلا استثناء جاء تعبيرا عن توق الشعوب العربية إلى التغيير، وتطلعها للحاق بقافلة التحرك صوب المستقبل. ونسجل هنا أن ملك المغرب سعى إلى التجاوب مع تلك الرغبة، فبادر إلى إجراء تغيير في الدستور عزز فيه صلاحيات رئيس الوزراء، وقلص من بعض صلاحيات أمير المؤمنين، ومع ذلك فإن شوق قطاعات واسعة من المغاربة إلى إحداث مزيد من التغيير لا يزال يتجاوز تلك الحدود.
ثمة ملاحظة جديرة بالتسجيل هنا، تتعلق بآفاق التغيير في المجتمعات الخليجية وهي وثيقة الصلة بخصوصية تلك المجتمعات التي تلعب فيها العلاقات القبلية والعائلية دورا مهما في تحقيق الاستقرار وإشاعة السلم الأهلي. ذلك أن التغيير الذي تم في بعض الأقطار استهدف إسقاط الأنظمة وتوسل بالثورة عليها. أما في الدول الخليجية فإن رغبات التغيير لا تستهدف أكثر من إصلاح الأنظمة، وليس إسقاطها أو الثورة عليها. والداعون إلى ذلك هم أجيال المثقفين والشباب والفتيات الذين تخرجوا من الجامعات، واتصلوا بالعالم الخارجي وتشبعوا بأفكار الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
لست أشك في أن الزلازل أو الهزات التي حدثت في دول «الربيع العربي» نبهت الجميع على أن الشعوب تملك قوة التغيير، وأن الأنظمة الحاكمة ليست بالقوة أو الصلابة التي يوحى بها هيلمانها الظاهر، لكن أحدا لا يستطيع أن يتجاهل حقيقة أن التطور المذهل في وسائل الاتصال الذي بات يحدث كل يوم، أسهم في استنطاق الجميع وتفاعلهم مع أحداث المحيط. ومن ثم مكنهم ليس فقط من تجاوز الحدود الجغرافية والسياسية، ولكنه مكنهم أيضا من تجاوز مختلف السقوف المفروضة وممارسة حريتهم في التعبير في الفضاء الواسع بعيدا عن أي رقابة، وعبورا فوق مختلف الأسوار والجدران.
لقد أطلقت ثورة الاتصال سراح الأصوات المحبوسة؛ الأمر الذي أحدث نقلة مهمة في حياة وإدراك المواطن العربي الذي عاش طويلا مستقبلا وممتثلا، وقد اكتشف أن الطريق انفتح أمامه لكي يصبح مرسلا ومبادرا، بل قادرا على التوصيل والتأثير. وحين حدث ذلك فإنه أصبح أكثر جرأة وأعلى صوتا، وما عادت تخيفه هالات السلطة ولا هيلمانها، وما عاد يقنعه ادعاؤها العصمة أو القداسة.
في ظل ذلك الوضع المستجد، أصبحنا نواجه مشكلتين؛ مشكلة الأنظمة التي لا تريد أن تعترف بأن الدنيا تغيرت وأن العيون والعقول تفتحت، لذلك باتت مشغولة بتحدي التاريخ وقمعه أكثر من انشغالها بالتفاعل معه. والثانية مشكلة الجماهير التي دخلت إلى ذلك العالم الجديد، وقد امتلكت الحرية وتسلحت بالجرأة، لكنها لم تحسن بعد استخدام وتوظيف تلك الملكات الجديدة لصالح المستقبل المنشود.