اليمن: الجرعة ليست المشكلة ولا إلغاؤها هو الحل

كانت الكلمة الأخيرة، التي ألقاها الرئيس عبد ربه منصور هادي، تعبيرا صادقا، وواضحا، وصريحا، عن العمق الذي وصلت إليه الأزمة التي يمر بها اليمن، ومدى السرعة التي تنزلق معها البلاد إلى أعماق مجهولة، ولا تبدو في الأفق - حتى هذه اللحظة - مؤشرات إيجابية تدفع إلى التفاؤل بخروج قريب إلى آفاق يستحقها المواطن الباحث عن الأمان والحياة الكريمة.


حين جرى اتخاذ القرار برفع الدعم عن المشتقات النفطية لم تتوقف الإشادات، والتعبير عن حكمته، ومردوداته الإيجابية على الاقتصاد اليمني، وحياة الناس، ورددت قلة أن المنتفعين هم الذين سيخسرون مكاسبهم التي تراكمت بعلم كثير من المسؤولين ومشاركة بعض منهم في حصيلتها على مدى عقود طويلة، ومرة جديدة أثبتت الأحزاب المشاركة في الحكومة الانتهازية في أوضح صورها، فرغم أن القرار جرى اتخاذه في اجتماع لمجلس الوزراء ترأسه الرئيس حتى يمنح القرار دعما سياسيا قويا، فإن الأحزاب - ولم يكن ذلك مفاجئا - بدأت بعده بالتعبير عن ضرورة إجراء مراجعة للقرار ودراسة آثاره السلبية على المواطنين، بل وانتقده بعضها، وبدا الأمر كما لو كان قرارا مباغتا، وهم الذين رفعوا أيديهم تأييدا كما جرت العادة في كل قرار يتخذ في حضور الرئيس.. وانضم بعض المستشارين ليعلنوا استحالة العودة عن القرار، وحذروا من الآثار المترتبة على ذلك، لكنهم سرعان ما شاركوا في رفع أيديهم تأييدا للنكوص عنه.


لا يمكن لأحد إنكار أن القرار لم تجر دراسته بصورة اقتصادية من قبل مختصين، وكان لا بد من اتخاذ خطوات تسبق الإعلان عن إلغاء الدعم، وكان من الضروري العمل على التهيئة النفسية بمصاحبة إجراءات لتصحيح أوضاع موظفي الدولة المعيشية مع ملاحظة أن ليس كل اليمنيين موظفي قطاع عام، وبالتالي لا يجوز أخلاقيا إطلاق الخديعة بأن رفع المرتبات سيساعد على احتمال آثار الجرعة التي وصفها الكثيرون بالقاتلة، وهو توصيف مبالغ فيه، ولكن ليس من المستغرب أن بعض الأطراف تستخدمه لتحقيق مآرب سياسية، ويتناسى هؤلاء أن الفعل السياسي أو الاقتصادي غير الحكيم وغير المدروس يمكن استغلاله بسهولة ترتد على متخذيه وتجعل منهم هدفا مباشرا للانتقادات.


لقد نبهت كثيرا أن استمرار تجاوز الهيئات الشرعية رغم هشاشتها، والإكثار مِن منح مَن لا شرعية دستورية لهم حق إبرام الصفقات والاتفاقات، سيجعل الأمر كمن يقدم العربة أمام الحصان، وليس معقولا أن يقع الخطاب الإعلامي الرسمي والحزبي في فخ كيل الشتائم، ونشر الشائعات، وتأجيج المذهبية، وتناول الأشخاص باتهامات العمالة، التي لم تُبق مخالفا في الرأي إلا وضعته في مرمى بذاءاتها، وقد تكاثرت المواقع الإلكترونية حتى صار المرء يأسف لهذا الهدر في المال والجهد لمجرد إرباك الناس والمزيد من القلق، ومن المؤسف أن كثيرا من هذه المواقع يجري تمويله من المال العام في الوقت الذي تئن فيه الحكومة من قلة مواردها وضعف حيلتها وهوانها على الجميع.


إن حالة الارتباك في طريقة صنع القرار وإخراجه لم تعد تحتاج إلى براهين كثيرة، ويمكن الاكتفاء بالنظر إلى إعلانات الحكومة عن تنفيذ توجيهات الرئيس في القضايا التي تقع في صميم عملها الدستوري والأخلاقي، ولكنها تريد التنصل من مسؤولياتها والاكتفاء بمزايا المواقع التي يتقاسمها ممثلو الأحزاب، ومرة أخرى دفعت الرئيس ليرأس جلسة مجلس الوزراء ليعلن قراره بخفض في أسعار المشتقات النفطية، وهو فعل سياسي لا بد أن المواطن العادي سيحيل رصيده إلى «أنصار الله – الحوثيون) فكيف يمكن لحكومة أن تتخذ قرارا وتدعي قدرتها على التمسك به وتنفيذه، ولكنها لم تلبث أن تتراجع تحت ضغط شعبي لا يمكن لأحد إنكار الجهة التي هيأت له ونظمته ودفعت حشودها إليه، وكان من المحزن رؤية الوزراء وهم يحضرون الاجتماع الذي كيلت فيه التهم إليهم، ومطالبة الحاضرين باستبدالهم، ومع ذلك لم ينتفض أحد منهم لكرامته الشخصية، ويتوارى بعد الكم المفزع من الاتهامات التي يمكن القول براحة ضمير إن أغلبها صحيح للأسف.


لم يعد من المقبول الاستمرار في استخدام الذين قفزوا من المركب في لحظات فقدان السيطرة عليه، واستخدام الآليات الصدئة نفسها التي فقدت الثقة والمشروعية، ولا بد لي أن أقرر هنا مدى الحزن على إنسان كنت وما زلت أقدره وأحترمه لتاريخه ونضاله؛ وهو الأستاذ محمد سالم باسندوة، وكم أتمنى أن يقذف بالموقع الذي تبوأ سدته في أحلك الظروف، لكنه للأسف الشديد تشبث به وخسر فيه كثيرا من قيمته المعنوية لدى الناس.


كان باسندوة علامة فارقة في تاريخ حكم الرئيس السابق علي عبد الله صالح، فقد عزف عن المناصب ولم يسع إليها، وعرفه الناس عف اللسان، كريم المقاصد، نزيها وصبورا، لكني حزنت على ما آلت إليه صورته.. اليوم هو قادر أن يثبت للناس أن الموقع لا يعنيه ولا يزيد في رصيده الوطني شيئا، وأن يتركه لمن يتوسلون إليه ويرضخون له، وهم كثيرون، ومن سخرية القدر أن أغلب الذين يتداول الناس أسماءهم لا يمتلكون في تاريخهم أكثر من التلون، والتقلب، والخنوع.


إنني مقتنع أن اليمن لن يخرج من هذه المحنة عبر تشكيلة حكومية جديدة، كما أوصت اللجنة، التي قال الرئيس إنه اجتمع بها إلى ساعة متأخرة من الليلة التي سبقت إعلانه عن التراجع عن جزء من الجرعة (القاتلة)، لأن نص ما خرجت به تلك الأمسية هو الإقرار بتكرار للتقاسم الحزبي وتوزيع للمواقع على المتكالبين عليها، وفي ذلك برهن «أنصار الله - الحوثيون» ذكاءهم وترفعهم عن هذه اللعبة السمجة، ولا بد أن يعلم الناس أن البلاد لن تخرج من هذه الدوامة المتكررة في ظل سياسة التقاسم والمحاصصة.


إن التفاتة سريعة إلى ما أقره المنتجعون في «موفينبيك» يقود إلى استنتاج لا تخطئه العين المجردة: لم يجر تنفيذ شيء من بياناته وقراراته، ولا بد أن تكون العودة إلى قراءتها بداية تتيح الفرصة لإعادة تشكيل الصورة التي يتوخاها المواطن العادي، ولا يمكن تبرئة «أنصار الله - الحوثيون» من الشوق إلى المشاركة في صنع القرار، والحصول على جزء من مغانم السلطة وملذاتها، وهو ما أتاحه لهم جشع الفرقاء الآخرين واستحواذهم وتشبثهم بأهواء الحكم، وفي المحصلة ليسوا أبرياء كما يصورون أنفسهم، ولا هم شياطين كما يريد لهم الخصوم أن يظهروا.


الأيام القادمة عصيبة، ولعل في عودة مجلس التعاون الخليجي، عبر تعيين مبعوث خاص للأمين العام، أملا في الاقتراب الخليجي من المشهد اليمني والانغماس الإيجابي فيه؛ مما يخفف من عبثية التدخل الغربي، وصلف مبعوث الأمم المتحدة، اللذين أوصلا اليمن إلى هذه الهاوية.

 

مقالات الكاتب