منتجة الماضي في عدسات الحاضر
العنصرية والتعصب والنظرة الأحادية وضيق الأفق واحتكار الحقيقة وتحديد من يمثل الدين والقيم والوطن والشعب، كل تلك أمراض تفشت ولا زالت تتفشى بشكل مخيف يهدد الهوية القومية والانتماء الديني والأبعاد الحضارية والأساس التاريخي لهذه الشعوب التي تمتد «مضاربها» من الخليج إلى المحيط.
هناك عدوان صارخ منا علينا، منا على ثقافتنا، وعلى تاريخنا وحضارتنا ورموزنا، ومنا على اقتصادنا وسياستنا وأوطاننا وشعوبنا. نحن نعتدي على أنفسنا باسم أنفسنا، نضرب الدين باسم الدين، والوطن باسم الوطن، والشعب باسم الشعب، والقيم باسم القيم الأخرى المضادة، كما نضرب الحاضر باسم الماضي، ونعيد إنتاج قراءة سلبية للماضي، مثقلين بخيبات الحاضر وأوزاره.
تضربنا العنصرية العرقية والدينية والأيديولوجية، طولاً وعرضاً، بشكل يقسم المقسم ويجزئ المجزأ، ويكاد أن يقضي على هويتنا وثقافتنا وتاريخنا، ويمزق التماسك الشكلي لهذه الخريطة الكبيرة.
هناك عرب في نظر عرب آخرين هم بقايا فرس، وعرب آخرون في نظر عرب آخرين هم بقايا هنود وأوروبيين وأحباش، وعرب في نظر عرب هم شراب بول البعير، وأكلة لحم الجمل والضب، وبدو صحراء، وغيرها من أوصاف وردت في كتب الشعوبيين القدماء، وبالمقابل هناك عرب في نظر عرب هم أهل مدن بلا قيم ولا عروبة وخليط مما تلقي البراري والبحار، إلى درجة ظهرت فيها مصطلحات ذات أحمال عنصرية، مثل عرب الشمال وعرب الجنوب، وعرب المشرق وعرب المغرب، وهي مصطلحات ذات أبعاد انعزالية، بعيداً عن مجرد التقسيمات الجغرافية البريئة.
ونمضي في قوائم التصنيف الآيديولوجي والديني، لتطالعنا تسميات وتنميطات وصور أخرى، فهناك عرب في عيون عرب هم عبارة عن مجاميع من الإرهابيين والتكفيريين والدواعش والمنافقين والعملاء والمرتزقة، وهناك عرب في نظر عرب آخرين هم الروافض والمجوس والخوارج وعملاء الغرب، وخونة الدين والوطن.
آيديولوجيا وآيديولوجيا مضادة، وتصنيفات وتصنيفات مضادة، وألقاب وألقاب مضادة، وحقد وحقد مضاد، وكراهية وكراهية مضادة ينشرها هذا الفضاء المفتوح الذي يضخ صوراً وصوراً مضادة تختفي فيها الصورة الحقيقية للعربي الطيب، وكأن «العربي الطيب هو العربي الميت»، حسب التصورات الإسرائيلية المبنية على أسس عنصرية، تجاه العرب.
ليس هذا وحسب، بل إن القبح المستشري اليوم يريد البعض نقله إلى الماضي الذي يرونه بعيون حاضرهم ذي النظارات السوداء والصور القاتمة، يريدون إعادة تشكيل الماضي، وإعادة كتابة التاريخ، لتتواءم الرواية التاريخية مع التوجهات الآيديولوجية والسياسية لهذا الفريق أو ذاك.
وحتى الرموز الدينية والقومية نالها قدر كبير من تشوه النفوس الذي ألقته الحروب العربية الأهلية على أرواح قطاعات واسعة من العرب الذين أعادوا إنتاج رموزهم على صورة الحاضر القاتم المهزوم.
ومع إعادة إنتاج الماضي على صورة الحاضر القاتم، برز رجل الإسلام وخليفته العظيم عمر بن الخطاب، وكأنه سبب «كل انحطاط أصيبت به الأمة»، حسب تعبير حسين الحوثي، وظهر فقيه الإسلام وفارسه علي بن أبي طالب في صورة المتهالك على السلطة والنساء، حسب توصيفات كثيرة تعيد إنتاج شخوص التاريخ على صور الشخصيات المعاصرة، بكل تشوهات اللحظة ومراراتها.
وأعيد إنتاج تاريخ الأمويين الذين أسسوا واحدة من أعظم دول التاريخ العربي الإسلامي، ليختزل ذلك التاريخ في يوم صفين وغيرها من فترات الحروب الداخلية بين المسلمين آنذاك.
هناك أمم بتاريخ مأساوي حقيقي، ولكنها تعمل على ترميم ذاكرتها، وإعادة إنتاج ذلك التاريخ بما يضيء المستقبل، فيما نعمد نحن إلى مشاعل النور في تاريخنا، ونحاول بكل جهد وحماقة إطفاءها، ونزع الرمزية عنها، لنصبح أمة بلا رموز دينية أو قومية أو وطنية أو علمية أو فكرية، كتلك التي حدثنا عنها القرآن بأنها «نقضت غزلها من بعد قوة»، أو كأولئك الذين قال عنهم «يخربون بيوتهم بأيديهم»، في مسارعة إلى التدمير الذاتي تبعث على الدهشة والأسى في الوقت ذاته.
ومع كل ما قيل، فإن ذلك لا يعني بالطبع أن تاريخنا الديني أو القومي أو الوطني ليس فيه تشوهات، بل فيه الكثير من المآسي والتشوهات، لكنه لو كان – في جملته – بالصورة التي نعيد اليوم إنتاجه بها، لما أقام أصحاب ذلك التاريخ حضارة ممتدة من حدود الصين إلى حدود فرنسا، ولما وجدت مراكز إشعاع ديني وحضاري في المدينة ومكة ودمشق وبغداد والقاهرة والقيروان وقسنطينه ومراكش وصنعاء وشنقيط وسمرقند وبخارى وقرطبة، وغيرها من مراكز الإشعاع الحضاري العربي الإسلامي.
المشكلة ليست في التاريخ، المشكلة في أننا نسلط عدسة الكاميرا على المشاهد التدميرية في ذلك التاريخ، على اللحظات المظلمة، تماماً، كما يسلط الضوء على زوايا محددة من المسرح، لأغراض درامية، في نفس المخرجين والمنتجين الذين يصفق لهم جمهور لا يدري ما هي الأهداف والمآلات.
وعندما يكون الحاضر مهزوماً، فإن أهله يسحبون تلك الهزيمة إلى الماضي، للتخلص منها، وإلقاء أعبائها على الماضي، وتبرير حدوثها بسبب أحداث التاريخ، أو للهروب من مواجهة معارك الحاضر بالبحث في التاريخ عن معاركه وثاراته، للتنفيس عن احتقانات اللحظة الحاضرة بتفجيرها في الماضي الذي نستعيد لحظاته المناسبة لواقعنا المعاصر، في عملية تأثر وتأثير بين الماضي والحاضر، ولكن بصورة تدميرية مرعبة.
وبالعودة للحديث عن تصنيف العرب بعضهم بعضاً، لنا أن نتساءل: إذا انطبقت تنميطات كل فريق منهم ضد الفريق الآخر، فأين هم العرب الحقيقيون إذن، ولماذا نظل نفاخر بتاريخنا، ونعتز بديننا، فيما كل فريق في نظر الفريق الخصم، ليس بعربي ولا مسلم، ولا حتى إنسان، يمكن أن تسعه القيم التي يتوافق عليها الناس جميعاً؟!
هذا العبث ينبغي أن يتوقف، هذا التمزيق للنسيج الاجتماعي ينبغي أن ينتهي، هذه الأوصاف التي يراد بها التصنيف العنصري ينبغي أن نكف عن الترويج لها، وهذا التشويه للماضي في عيون الحاضر، هذا القتل للتاريخ والفتك بالذاكرة والعبث بالقيم، والتجريف للحاضر الذي يمتد للماضي ينبغي أن يتوقف.
توقفوا، فإننا نخسر، نخسر أنفسنا، نخسر شعوبنا، نخسر هويتنا، نخسر عروبتنا، نخسر قيمنا الدينية والثقافية، ونخسر الحاضر والماضي، وإذا خسرناهما فقد ضمنا خسارة مستقبلنا بكل تأكيد.
*نقلاً عن القدس العربي