ورحل جمهوريٌ آخر
رحل الشيخ القدير عبدالمجيد الزنداني تاركاً فعلاً وذكراً حسناً شمل جميع جوانب حياته ، فهو العالم الرباني الوقور ، والسياسي المحنك ، والرائد المتميز في علم الاعجاز العلمي ، والأكاديمي الضليع في العديد من علوم الدين والدنيا ، ومن الصعب الإحاطة بالمهارات والإمكانات التي كان يجيدها رحمه الله ، وهي ملكات يعجز الكثير عن الإلمام ببعضها ناهيك عن جمعها في شخصٍ واحد ، لكني سأتعرض في السطور التالية إلى جوانب في شخصية الراحل ونضاله أهملها أغلب المُتذكرين لحياته ومناقبه التي امتدت مدى عقود منذ بداية الستينات وحتى اليوم .
لقد عاش "الشيخ عبدالمجيد الزنداني" جمهورياً بامتياز ، رافضاً للملكية والطائفية مشروعاً وأشخاصاً ، ويبدو ذلك من خلال التتبع التاريخي لمحطات حياته ، فحين انطلقت ثورة 26سبتمبر 1962م قطع دراسته في مصر واتجه إلى صنعاء للوقوف في صفها ، وتلك كانت نقطة الانطلاقة في مسيرته الجمهورية الناصعة وترجمة لقناعاته الرافضة لمشروع الإمامة بما تحويه من طائفية مقيتة وسلالية لئيمة تلغي حق الشعب في اختيار حكمه وحاكمه ، وتتصادم مع بديهيات الشريعة الإسلامية الغراء التي كان ينهل علومها الزنداني الشاب في أروقة الأزهر إلى جانب دراسته الصيدلة .
عاد الزنداني إلى بلده موازراً للثورة السبتمبرية وعمره 24 عاماً فقط ، والتحق بطلائعها بحماس منقطع لا تجده إلا لدى القادة المناضلين ذوي الهمم المتقدة ، فكان من اللائق أن يرافق أحد هؤلاء ، وكان الموعد والحدث الأهم بأن صار مرافقاً ورفيقاً لأبي الأحرار والثوار القاضي "محمد محمود الزبيري" وشارك معه في كل الأحداث والمنعطفات التي تلت انطلاق الثورة السبتمبرية حتى أغتيل القاضي الزبيري في عام 1965م وكان الزنداني بجواره وقتها ، كما قدم برنامجاً إذاعياً عن "الدين والثورة" ليدحض الأفكار الإمامية التي حاولت خلال حكمها وتحكمها أن تجعل من الدين وسيلة لسلب إرادة الناس وتعبيدهم لها ، والدين من ذلك بَراء .
قبل ثورة 26سبتمبر المجيدة كان الجهل هو وسيلة الإمامة البغيضة للسيطرة على الأرض والانسان ، فأغلقت المدارس ونشرت الخرافات ، وقصرت التعليم على سلالتها فقط ، وكان من أولويات الجمهورية الوليدة وثوارها القضاء على هذا الإرث المتراكم بنشر العلم وافتتاح المدارس ، وهنا كان "الزنداني" حاضراً ، فسلك هذا الدرب ، وحمل هذه الراية مكافحاً ومنافحاً في سبيل إعادة تنشئة الجيل الجمهوري ليواكب العالم ، ويتحرر من حالة العزلة التي فرضها الكهنوت الإمامي البغيض ، وكرّس وقته وجهده معلماً ومؤلفاً وإدارياً ومرشداً كل همه كسر حالة العزلة التي فرضها الكهنوت الإمامي البغيض .
لم يتوقف "الزنداني" عن جهوده الجمهورية فأسس في منتصف التسعينات "جامعة الإيمان" لتشكل مؤسسة علمية رائدة تقدم العلم الشرعي الصحيح بعيداً عن خرافات المشروع الطائفي السلالي الذي بقى كامناً في بعض تفاصيل الجمهورية متحيناً الفرصة للانقضاض عليها ، وكان من وسائله في البقاء الاستمرار في نشر خرافة التمييز للسلالة وبانهم وحدهم "أوعية العلم وأعلام الهدى ومصابيح الدجى!" فجائت جامعة الإيمان لدحر هذه الخرافة لتقدم للناس بمختلف أنسابهم وأجناسهم وأوطانهم علماً شرعياً خالصاً ومكثفاً ، وتخرج منها جيلٌ من العلماء والدعاة والوعاظ الذين جابوا اليمن والعالم ولايزالون ، ومن أصفى صفاتهم أنهم لا يؤمنون بافضلية عرق على آخر ، ولا سلالة على بقية الشعب ، وكانت تلك من أجل وأعظم الخدمات التي قُدمت للمشروع الجمهوري في اليمن .
وحين أرادت الأمامة في نسختها الحوثية أن تعود وضعت من ضمن أهدافها الاولى مهاجمة "جامعة الإيمان" ونهبها لإدراكهم بخطورتها على مشروعهم الطائفي ، وبأنها تشكل أحد خطوط الدفاع الأولى عن الجمهورية ، لكن الأجمل في الامر أن المشروع الإمامي الجديد رغم انه نهب وفجر ودمر لكنه اصطدم بالوعي الجمهوري الذي صنعته عقود من العمل الجاد قدمه جيش طويل من المناضلين الوطنيين حسب الشيخ الزنداني رحمه الله انه كان منهم وفي مقدمتهم .
رحل الشيخ عبدالمجيد الزنداني ولازال جمهورياً من راسه حتى أخمص قدميه ، ودفع كثير من صحته ووقته وهو المسن الذي يهده الترحال ، وقد أخبرني من اطلع على حاله في رحلته الاخيرة من تعز إلى المملكة العربية السعودية كيف عانى الآلام في طريقه ، وتاثرت صحته منذ تلك الرحلة الشاقة التي كان يدفع فيها ضريبة كونه جمهورياً ظل طوال حياته يقارع الإمامة الظاهرة والباطنة من مختلف المواقع التي عمل فيها أو أدارها .
رحم الله شيخنا الجليل وخالص العزاء لأنفسنا ولكل أهله وطلابه ومحبيه ، وللتجمع اليمني للإصلاح الذي كان أحد رواده وقواده ، ولليمن عامة .
دمتم سالمين ..