أنت صائم .. أنت حُر
لم يكن صيام رمضان مجرد عبادة نؤديها لنيل الأجر والمثوبة والرضى فقط ، وإن كان هذا الغرض هو أول المقاصد للعبادات بشكل عام لكن ثمة مقاصدٌ أخرى تعود على ذواتنا قد لا نشعر بها بشكل مباشر ، لكنها تملك دوراً مهماً في بناء شخصياتنا وعلاقاتنا ، وما نقرره أو نختاره في دروب الحياة المختلفة ، ولعل من أهم مقاصد عبادة الصيام هي تربية الأنفس على الحرية!
نعم .. الحرية ، ولعلك تسالني الأن وما العلاقة بين الصيام والحرية فتلك عبادة وذاك سلوك ، وربما تردف : أن الحرية تبدو كمفهوم عصري مرتبط بممارسات الدول والشعوب وصراعات أرباب السياسة ، وأجدني اقول لك : ليس الأمر كذلك ، بل إن الحرية فطرة إنسانية خُلقت مواكبة للروح التي بثها الله في أجسادنا البشرية منذ أبونا أدم وحتى اليوم ، وأُنزلت الشرائع والكتب كلها لتثبيت وتعزيز هذه القيمة بأشكال وصور وسلوكيات مختلفة ، وشريعتنا الغراء كسابقاتها جائت لتؤكد مفهوم الحرية وتنميه وتحافظ عليه ، وكان الصيام أحد وسائلها لذلك.
ذلك أن الصائم تحرر من أهم قيود تربط النفس البشرية وهي قيود الطعام والشراب وقضاء الوطر ، وهي دوافع فطرية تُخْلق مع الإنسان منذ ولادته ، وحين يصير مكلّفاً بالصيام تكون تلك الدوافع قد اكتملت واستوت لديه جميعها ، فيأتي الصيام الذي لا يلغي هذه الحاجات والدوافع ، وإنما يجعلها تحت السيطرة والتحكم ، وثلاثون يوماً في كل عام كفيلة بأن تحررنا وتجعلنا متحكمين جيدين بحاجاتنا ودوافعنا، ومن هنا جائت علاقة الصيام بالحرية.
المعتاد أن الإنسان في تجاربه الحياتية لا يمارس من معنى حريته إلّا جانباً واحداً هو جانب تحقيق رغباته كما يريد ، وهو ما يسمى "حرية الفعل" ، لكن الأهم أن يمتلك القدرة على كبت رغباته وحاجاته الجسدية وتلك هي "حرية الترك" فمن يمارس الفعل فقط فلا يُعدّ حراً ولا مختاراً ولا مستقلاً في صنع قراراته، وحرية الترك هي نقطة الارتكاز وعليها تقاس حرية الشخص من عدمها ، والصيام يضع الإنسان في تجربة عملية تكون فيها جميع رغباته واختياراته وحريته ملك يديه ، ويستقل في صنع قراره فيها، فتكون خاضعة لقدرته، ووتظهر هنا حقيقة الحرية والاختيار بقدرته على الفعل والترك ، وبمعنى أخر تتحقق حريته إذا كان يمتلك حرية الممارسة لرغباته وحاجاته، وبالمقابل تماماً يتملك حرية الرفض لتلك الرغبات والحاجات.
يعلمنا الصيام أن الحرية الحقيقية هي أن يتخلص الإنسان من الحدود والقيود أمام إرادته الحرة ، وتحقيق أهدافه المنشودة ، فإن كان عبداً لأهواء الجسم وأطماعها فإنه في الواقع أسير الرغبات والنزوات ، وهو بذلك عبدا لأهون الأشياء في الحياة ، والنفس الحرة التي استخلفها في الأرض لتقيم فيها الحق والعدل والمساواة لايليق بها أن تنقاد لحاجات البدن ، والصيام يضمن تحقيق هذه الميزة.
الحرية مقصد عظيم لكثير من العبادات إن لم يكن كلها ، لكن الصيام يبدو الأقرب لتأصيل هذا المفهوم في النفس البشرية فكراً وتطبيقاً ، وبه ينهض الفرد وتعلو الأمة ويتحقق المراد.
دمتم سالمين..