اتركوا عدن ترتقي بكم
كل يوم وأزمتنا في اليمن وبالذات في مناطق الشرعية، تستفحل لحد لم يعد يطاق تحمل تبعاتها، في تناسب طردي مع حجم النزاعات البينية للقوى المسيطرة على جغرافيا تلك المناطق، فلا حل مجدي لأزماتنا، دون وضع حل لنزاعاتنا.
نزاعات وان كانت في شكلها مشاريع عادلة لأصحاب الأرض وحق تقرير المصير، لكن في جوهرها تحولت وسائل ضغط للابتزاز السياسي في الصراع على السلطة والثروة، ابتزاز أعاد تشكيل وسائل الضغط وادوات نفوذه، من بيئة الصراع القديم الذي جر نفسه على الواقع اليوم، أدوات تخلقت في رحم المناطقية والجهوية، والقبلية والسلالية، بعد ان عقر رحم الدولة لإعاقة تخلق أي أداة من أدوات الفكر التنموي للدولة.
الكل يحدثنا عن استعادة الدولة، وعلى الأرض يرسخون أدواتهم الخاصة، على نمط منظومة الحكم التي رفضوها، فكانوا البديل السيء، الذي لم يتغير ولن يصنع تغيرا، بل أعاد فكرة الزعيم الصنم، وشخصنة القضية، بل عسكرتها، والدوس على فكرة الدولة في زحمة التسابق على السيطرة والتمكين.
خلونا نتفق على القاسم المشترك، وحديث كل الأطراف عن (حكم محلي كامل الصلاحيات)، بينما هي تسيطر بقوة السلاح على مناطق أوسع من مناطقها، لنأخذ عدن مثالا، المدينة التي كانت زهرة المدائن (في مقال الاديب العماني خالد بن سعيد الشنفري)، بينما يتنكر البعض لها، عدن تتوق للتحرر من عسكرة الحياة، بحكم تفردها الثقافي والحضاري، كمدينة جمعت كل الأعراق والثقافات والاطياف، وتشكلت فيها اول نواة للحركة الوطنية، والتعدد السياسي والتنوع الفكري، مما جعل منها منارة انارة محيطها المتخلف بالعلم والثقافية والتجارب الحضارية والإنسانية، من غير المنطقي ان تحكم اليوم بتلك الأدوات، التي لم تتفهم خصوصية عدن، وتصر إصرار عنيد على ان تحكمها بأدوات رثة تستفز مدنية عدن، وتصادر ادواتها المدنية (النقابات والإعلام ومنظمات المجتمع) مما جعل من عدن معسكر تحتكم للبندقية، بما لا يتوافق وخصوصية عدن الحضارية ، ورقي التعايش في نسيج متنوع ثقافيا وفكريا، يحتكم لروح القانون، ولا يحتكم للأعراف القبلية التي نشهدها اليوم، وتستفز الشارع العدني، بصلح قبلي تذبح فيه الاثوار، وتحفز عادات وتقاليد القبيلة والعشيرة في وسط عدن المدينة والمدنية.
لو اعطي لعدن حكم ذاتي كامل الصلاحيات، مدينة تحكمها أدوات مدنية، من أبنائها الذي تربوا وترعرعوا في كنفها، هم أكثر دراية بخصوصية عدن، أكثر تمسكا برقي وحضارة عدن، وأكثر حرصا على حماية إرث عدن الثقافي والفكري، لا يمكن لمحب لهذه المدينة ان يسمح للعبث القائم اليوم في تلك الخصوصية، العشوائيات التي اضرت بتخطيط عدن المدني، عسكرة الحياة التي عكرت سكينة عدن، العنف الذي عطل روح التسامح والتعايش في عدن، والعصبيات القبلية التي أضرت بالمدينة والمدنية.
لنكن صادقين، وتأخذ عدن حقها منطقة حرة، ومركز تجاري واقتصادي هام، بحكم ذاتي كامل الصلاحيات، واتركوها تستحضر تاريخها الحضاري والثقافي والفكري، لتقدم مثال راقي يمكن ان يعمم في الجنوب والشمال والمنطقة، ارفعوا ايديكم عن عدن، واتركوها تعيش بسلام وتسامح بنسيجها المتنوع والمتعايش مع بعضه بعض، لترتقي بمن يعيش فيها ويسكنها، اتركوها مدرسة ليتعلم منها ابنائكم ثقافة التعايش مع الاخر المختلف، وتطويعهم لثقافة روح القانون، اتركوها تعلمهم كيف يستخدمون عقولهم اكثر من استخدامهم لعضلاتهم، ويستخدمون الأقلام اكثر من استخدامهم للسلاح، يبدعون رقي وتسامح وتعايش اكثر من ابداعهم للقتل والقهر والإخضاع والتسلط، يبدعون مهارة وعمل و تقنية اكثر من ابداعهم في النهب والبسط والاستيلاء والاستحواذ بقوة السلاح.
كفى 65 عاما منذ الاستقلال، في محاولة اخضاع عدن، كفى ما سفك من دماء وما أزهقت من أرواح، وما نهب من مال وممتلكات، وما هجرت من عقول، كفى إهانة للأبرياء المدنيين المسالمين من أبناء عدن الطيبين، كفى وكفى ما حدث لعدن وعسكرة سواحلها ومتنفساتها، كفى عبث بأراضيها و تسمية شوارعها بأهواء ارتهان سياسي رخيص، كفى إهانة لمدينة كانت حلم لمن تسمون شوارعها بأسمائهم، وكفى تعطيل لكل مقوماتها الاقتصادية، والتاريخ لا يرحم، وللصبر حدود.
لن تستطيعوا حكم عدن بتلك العقلية، فتركوا عدن تعلمكم وترتقي بكم ان كنتم تريدون دولة مدنية، ومستقبل زاهر.