عدن والدولة المنضبطة
يتساءل الكثير لماذا عجزنا على بناء دولة محترمة على مدى نصف قرن ؟
الاجابة أننا عاجزون على ان نستوعب الاختلاف ,وادارته كنعمة لا نقمة , وكلما تمكن أي منا من امتلاك القوة سيطر على السلطة والثروة , وعمل على جعل سلطته هي الدولة وهي المؤسسات وهي القرارات التي تخص الجميع , وبذلك يكون قد أسس له نظام يحميه من الاخر , ودولة تخدم اهوائه ومزاجه وشكوكه ونواياه تجاه الآخرين , بالضرورة ان يقوم بعملية المطاردة والاجتثاث ,والعنف والانتهاك والقتل والحروب.
النعمة ان الاختلاف ظاهرة صحية , إذا جعلنا منها جسر للتواصل بين افكارنا ,تفتح مساحة واسعة لبلورة تلك الأفكار , وفرزها بما يخدم الصالح العام وفق مبدأ الحق ويزهق الباطل .
ونقمة ان يتحول الاختلاف لحالة مرضية عندما تسيطر السذاجة على بعض ويرون انهم وحدهم اصحاب الحق , ويملكون مفاتيح ذلك الحق , وغيرهم مدان ومتهم وليس له الحق حتى في الدفاع عن نفسه وتبرئتها .
وبهذه العقلية نعيش في وطن تتقاذف به الامزجة , افضل ما فيه نظام دكتاتوري عسكري , استطاع ضبط إيقاع الحياة بالقوة الغاشمة , وإخضاع الآخر وكسر إرادته , وأسوأ ما فيه نظام تكون من مجموعة من المصالح والارتزاق , نشأ ليكن وكيلا لإذلال امة , يدار بواسطة استخبارات خارجية , عاجز على ان يضبط ايقاع الحياة , يتكون من تشكيلات لا وطنية لا علاقة لها بفكرة الدولة وثقافتها , على شكل عصابات اعدت خصيصا للعبث , باصطفاف جهوي اثني يرفض الدولة والمؤسسات , وكل ما يتعلق بالوطنية والانسانية .
ولا تبنى الأوطان الا بجهود تكاثف ابنائها وتوافقهم , الجميع شركاء في الارض ,شراكة منضبطة بعقد اجتماعي متوافق عليه ( الدستور ) , وقيم ومبادئ إنسانية وأخلاقيات البشر , هذا الانضباط ضرورة الحفاظ علية لتبقى الدولة , دولة كيانها وشخصيتها الاعتبارية والقانونية , تخفف من حدة الصراع على السلطة , والحسم باقل التكاليف , وتضمن عدم الانفلات القيمي والأخلاقي , ضمانة وطن يستوعب كل ابنائه, ويضمن لهم كرامتهم ,وطن ضامن للمواطنة المتساوية بكل مناحي الحياة , ومن يريد ان يكون فوق الدستور والقيم والاخلاقيات والحق , يصطدم بواقع يقاومه حتى يستقيم عوده , وان انتصر مؤقتا ,انتصار مشحون بغضب وغيض الناس, لن يستمر طويلا يتفجر ذلك الغضب لينتشله لمزبلة التاريخ .
الاختلاف لا يفسد للود القضية , عبارة وعي يدركها كل من يستوعب انه لا يملك الحقيقة الكاملة وليس له الحق الكامل, يستوعب ان الحقيقة ناقصة بدون رأي الآخر , إذا ملك جزءا منها والجزء الآخر سيجده عند الطرف الآخر , لأن وحده لا يملك القدرة على ان يرى الاشياء كما هي , يراها من زاويا منكسرة ببعض النزعات , ومنفرجة ببعض الطيش , ومقيدة بصورة ذهنية مشحونة ايدلوجيا وعصبيا , وتطير في هواء من الحماس الذي يدفعه أحيانا لزاوية مظلمة أو مشمسة لحد العمى , واحيانا يقف امام الحقيقة ما يحجب الرؤية , من ضبابية العنف والتعصب التي تحيط به وتمنعه من الرؤية كما يجب , وكثيرا هم العاشقون بالعوم في مستنقع الواقع المفروض عليهم , السائرون خلف الركب المسير للواقع , و مرعوبون من الصوت العالي , كثيرا من الأوراق الهشة التي تترك نفسها لرياح الواقع تأخذها حيث ما تريد , ولا تملك القدرة على مواجهة ذلك الواقع الذي يصطدم مع تطلعاتها وحقها بالحياة ويوفر لها الحق والعيش الكريم .
الاختلاف الحاد اليوم , حتى في مواجهة الجريمة , وانتهاك حرمة الحياة والشارع , مع ازدياد حجم المعاناة في عدن , وحجم الانتهاكات , لا تفسير لها غير اننا اسقطنا الدولة , وعجز القائمون ان يكونوا سلطة تضبط ايقاع التشكيلات العسكرية والامنية والسياسية والمدنية , وتوقف العبث بالإيرادات , وتستخلصها لتكن شريان يغذي ميزانية عامة , قادرة على ان توفر الاستحقاقات المعيشية والاقتصادية , وبالتالي تحسين حياة الناس .
الاعتراف بالحقائق ضرورة ملحة في عملية تقييم الواقع , وتحديد المخارج والحلول , والانكار القائم يزيد من حجم السقوط , والناس ترى وتراقب , تحدد مواقف واختيارات ,تتحمل وان زاد الحمل تنتفض , مواجهة ارادة الناس خطيئة الفشل والعجز , كثر الاتهامات والتخوين , والاسطوانات الساذجة , تتحول مثار سخرية من الصغير والكبير , كسخرية اليوم .
التغيير هي الحقيقة الدامغة في مسار مجرى التاريخ , تواجه بعض العقبات والأهواء والتشنجات والأحكام المسبقة , مسار يصحح نفسه , ويعود الناس لجادة الصواب , ليساعدوا بعض في توجيه الدفة , نحتاج ان نستمع لبعض بجدية , لنفهم ما عجزنا عن فهمة , وما نحتاجه فقط ان نعطي فرصة للأخر يعبر عن ذاته ومكوناته ,يعبر عن نفسه حتى يكمل جملته فأنت لا تعلم مدى الاستفادة التي سيحصل عليها الوطن من ذلك , اذا تركنا العنف ونصتنا جيدا لما يقول الآخر , وبحثنا عن نقاط مشتركة مع ذلك الآخر , ليتعافى وطن ومواطن وامة , لنكن محترمين ونحترم.