رحل جسده لكنه ترك دروسا خالدة..
العم محمد المنصوري.. فيلسوف النضال وملهم الشعب!
اخي وزميلي عبد الله المنصوري أخوتي فؤاد ، وضاح ، وزيد وبدر وكافة أسرة المنصوري، المجد لكم ولسجل النضال المشرق، وللبطل الفدائي توفيق، وللوالدة العظيمة أمنا جميعا..
حاولت أن أستنطق قواميس اللغات، لعلها تساعدني على أن نوفيكم حقكم، ونقدركم قدرا يليق بمشوار طويل وتضحيات مجيدة، وفداء أسطوري، وثمن باهظ بصبر وصدق وتواضع، ورضى كبير في سبيل الله والجمهورية والكرامة والحرية، فما أسعفتني الحروف!
أي حروف يمكنها أن تنطق في مقام أمنا آمنة! والدة توفيق المنصوري، الصحفي البطل، والفدائي النموذج.
ماذا يمكن الحديث عن تضحيات توفيق، والزملاء الابطال؟!
ماذا يمكن الحديث عن شموخ وأنفة وعزة العم محمد رحمه الله؟!
عن دورك الكبير وقلبك العظيم ومشاعرك النبيلة أخي عبد الله عبدالله ، وأنت توزع مشاعرك بين ظلمات سجن الأمن السياسي وبين عائلتكم الكريمة وأسرة توفيق وأسئلة أطفاله!
قلبي معكم، وستخلد نضالاتكم في صفحات من المجد، لا شيء يوازي ما تستحقونه من الاحترام والإجلال والتقدير.
راجعت تسجيلات صوتيه في هاتفي للعم محمد المنصوري وهو يسرد تفاصيل خمس سنوات من التضحيات، لا تزال نبرات صوته عامرة بالعزيمة وروح الإباء، مفعمة بالتحدي والشموخ، هو النموذج الخالد لليمني الذي يقهر القهر، ويهزم الانكسار.
بطولاته اللحظة تجلجل في شموخ قلّ أن تجد له نظير!، صوته النابع من كبرياءه وشجاعته يرسم لي المشاهد التي رواها لنا يوم وقف أمام بوابة الأمن السياسي، بجسارة وتحد ورباطة جأش هزم الأقزام من رعاع العنصرية وحثالة الزمن الغابر، لم يسمح لهم أن ينالوا من ذاته فهو يمثل ثلاثين مليون يمني، صوته الان يكمل التفاصيل الملحمية، كان الساعة تقترب من الثانية عشر ظهرا، وصوته يرتفع مسددا سهام التوبيخ لحراسة السجن: "انا ما جيت الا بعد ما قطعتوا لي موعد بأنكم تسمحوا لنا نزور ابني توفيق! الرجال ما تخلف وعدها، هذا عيد الله"!
قاطعته: هل كانت الزيارة في يوم العيد ممنوعة عليكم؟!
أجاب بصوت ممتد، إييييه، كما لو أنه يلوم السائل والسؤال، واسترسل ليقول أنه كان من القلائل الذي يمتاز بوعي غزير يكفيه لمقاومة ظلم وعنجهية هذه العصابة الأشد وحشية والأحط قدرا في التاريخ، لم يستوقفه السؤال كثيرا، أطال صوته ولا تزال رنة المد تتصاعد، ورجع الصدى يقول: لو كانوا يمتلكون قيما وأخلاقا ويحترمون الانسانية ما سجنوهم وعذبوهم، ومنعوا عنا الزيارات في الأعياد وفي المناسبات!
صوت العم محمد دافئ، ولا يزال يروي باعتزاز كبير وفخر عريض، يتحدث بنشوة المنتصر، وثقة الغالب، وهدوء الذي كسب المعركة، كل حرف يعيد تقديمه لنا من زاوية مختلفة، يكشف اللغز وراء صبره وتحمله وتضحياته الجسورة، يفصح عن درايته وفهمه وعمق نظرته ودقة معرفته لطبيعة العدو الذي نواجهه، وأن سر الانتصار فيها لمن يوطن نفسه لدفع ثمن يليق بوطننا الذي نريد له العافية من كل أوجاعه وجراحه الغائرة التي تنزف من كل وريد فيه عضة كلب، أو نهشة ضبع، أو نقرة غراب!
لم يحترم حراس السجن وعدهم ذالك العيد، وكان العم محمد المنصوري مستعدا لجولته النضالية تلك، أخذ عائلته، وأشار لزوجته، والدة توفيق، ولزوجة توفيق واخته، ولأطفال توفيق، بأن يتبعوه، لقد قال للمشرف الحوثي أنه سيندهش لو سمح لهم بالزيارة التي كانت وعدا مسبقا!، تنحى جانبا مع عائلته وأسند ظهره الى ظل سور السجن، وافترشت الاسرة الأرض، ووضعت النسوة "صحون" الغداء، الذبيحة التي اجتهد أن يقدمها حنيذا في يوم العيد، وأكياس ممتلئة بالعسل، والحلوى وبخور العيد، ووردة من توكل توفيق لأبيها، وجلس مبتسما، يعلم أسرته دروس النضال في مواجهة العصابات السلالية العنصرية، احتفلت بصنيعته السحاب التي سكبت قطرات المطر على الأب العنيد وأسرته العظيمة.
اقتربت الساعة من الخامسة عصرا، وهو في مكانه يقاتل بجلد وعزيمة وتحد وعزة نفس، يقاتل بسلاحه الأكثر اقتدارا على تحقيق النصر، الصبر وطول النَفَس، وهي ، لعمري، لّب الشجاعة، وعماد البطولة، وحقيقة المجد.
لم يكترث للحرب النفسية التي تمارسها ضدهم العصابة الاجرامية، ولم يلتفت لهم كل هذا الوقت، لكنه قام ومعه أسرته قبيل مغيب شمس العيد، حملوا الغداء والحلوى وصعدوا السيارة، باتجاه المستشفى، لأنه مرض والدة توفيق تفاقم جراء الشمس والمطر والقبح الموغل.
رحل العم محمد ولسانه يلهج بالدعاء لنجله البطل توفيق، وكانت دعواته خاتمة الحديث عن النضال الطويل، وفلسفة مواجهة العدو برفعة نفس وطول نَفَس، غادر الحياة وقد تركنا لنا درسا يمنيا خالدا، وأسرته لا تزال تحمل الراية وتكمل السير في هذا الطريق الذي سيحدد العاقبة فيها طرف واحد فقط: العم محمد وزوجته العظيمة وكل الأسرة الأبطال، يفعلون ما يليق بهم، ما يليق بتضحيات صحفي بطل اسمه توفيق المنصوري.
تغمدك الله بواسع رحمته يا عم محمد.