في الجنوب صراع من أجل الوجود

فشلت السلطة خلال الثلاثة والعشرين السنة الماضية من بناء الدولة وتوزيع الفرص العادلة بين المواطنين، اليوم يدفع هذا الفشل الناس للتصارع حول الفرص وما حدث في حضرموت أمس وما سيحدث اليوم وغدا وبعد غد..هو صراع ظل مكتوما لسنوات ويتمحور حول الفرص إذ يعتقد الجنوبيون والحضارم على الخصوص أن أبناء الشمال يسيطرون على الفرص ويضيقون الخيارات أمامهم والسبب ليس أبناء الشمال وإنما الدولة التي فشلت في التوزيع العادل والمنطقي وخلق الفرص المتساوية فدفعت الناس بفشلها إلى الصراع وربما إلى الاقتتال لا سمح الله في حال ظلت الأمور في توتر متصاعد دون صدور قرارات مثلا تشعر أبناء الجنوب بالاطمئنان حول المستقبل لان المستقبل قاتم ومظلم في هذه البقعة الجغرافية من اليمن رغم أنها تزخر بالثروات والخيرات والأرض الواسعة التي يلتهمها نافذون وفاسدون فيما يتمرغ الملايين في الفقر والعوز.

إن الصراع الذي يتمحور في الجنوب اليوم هو في الواقع صراع وجود، فالجنوبيون منذ سنوات رفعوا الشعار"نكون أو لا نكون" والواضح أنه صراع تدرج في المطالب حتى وصل إلى المطالبة"باستعادة الدولة الجنوبية" منطلقا من شعور بالإقصاء والتهميش وقلت الفرص المتاحة من أجل العيش الكريم أمام الكثير من أبناء الشعب في الجنوب الذين فقد اباؤهم وإخوانهم وظائفهم ومصادر عيشهم بسبب قانون التسريح من الخدمة الذي سنته السلطات بعد حرب صيف 94 المشئومة والذي وجد بسببه الآلاف أنفسهم في الشوارع من دون مصادر عيش أو حقوق وتعويضات مناسبة لاسيما وأن أبناء الجنوب كانوا يعتمدون اعتمادا كبيرا على الدولة في خلق فرص العمل والحصول على التعليم والتطبيب المجاني وتوفير سبل الحياة بسبب طبيعة النظام الاشتراكي آنذاك ليجدوا أنفسهم من دون غطاء اقتصادي وإتماني لهم ولمئات الآلاف من أفراد أسرهم، وحيث وجد جيل الوحدة في الجنوب نفسه أيضا يصارع على أرضه في ظل انعدام تام للفرص المناسبة بسبب ما يعتقدون أنه سيطرة أبناء الشمال على رؤوس الأموال والمشاريع الاقتصادية والاستثمارية وضخ أعداد هائلة من السكان إلى الجنوب لتشغيلهم في تلك المشاريع ناهيك عن الوظيفة العامة وغيرها باعتبار أن الجنوب هو مصدر عيش ورزق للوافدين الأمر الذي عقد المشكلة ووسع من رقعة البطالة والحرمان والفقر في ظل غياب السياسة الاقتصادية والإدارية الحكيمة التي بإمكانها التخطيط لمعالجة كل هذه المشكلات وإيجاد فرص متساوية أمام الجميع، مع التأكيد أنه كان بالإمكان معاملة أبناء الجنوب معاملة خاصة بسبب أولاً قلة السكان في الجنوب وثانيا بسبب أن 95بالمائة من الثروات التي ترفد ميزانية الدولة هي من الجنوب فضلاً عن مساحة الأرض والموقع وغيرها من المميزات التي وظفتها الإدارة الفاشلة للسلطة لمصلحة المنتفعين والفاسدين وضدا على مصلحة الناس والمجتمع ومشروع الدولة والوحدة.

إن رفع المطالب السياسية في الجنوب لم تأتي من فراغ، إذ يعتقد الجنوبيون أنهم باستعادة دولتهم بإمكانهم الحفاظ على ما تبقى من ثروات وأرض لتأمين مستقبلهم ومستقبل الأجيال القادمة من بعدهم بعد أن فقدوا الأمل في ظل النظام والسلطات المتعاقبة على حكم اليمن التي لم تفعل شيئا حتى الآن من أجل تأمين مستقبل الشعب في الجنوب الذي يرى حقه ينهب بينما هو يقتل ويشرد ويطرد من الوظيفة العامة ويحرم من أبسط الحقوق،وتظل مطالب الحراك السياسية المرتفعة ورقة ضغط قوية على السلطات.

وإذا ما نظرنا لهذا الصراع ولبعده المنطقي سنجده صراع حول الفرص والوجود يتخذ شكلاً سياسيا، بمعنى أن جذر المشكلة الذي أنتج المطالب السياسية هو اقتصادي ومطلبي في الأساس لكنه حينما لم يحل ويجري تهميشه يحتل الصراع السياسي موقعه ويصبح هو المسيطر على المشهد وتغدو مفردتا"الوحدة والانفصال" هما المتسيدتان على مشهد الصراع.

الهبة الشعبية تندرج في هذا المسار المتشعب والمتسلسل حيث يرى الجنوبيون أن الوقت حان لانتزاع حقهم من خلال فرض واقع جديد على الأرض مستغلين حادثة مقتل الشهيد بن حبريش في حضرموت ولوقف مسلسل القتل العبثي الذي تنفذه آلة النظام والقوى المرتبطة بمراكز النفوذ كالقاعدة وغيرها، حيث فشلت عملية التغيير التي شهدتها اليمن منذ انطلاق الثورة الشبابية وحتى الحوار من تطميين الجنوبيين حول المستقبل بل ظلت تلك القوى تلف وتدور حول مطالبهم لإفشالها وإحباطها وتهميشها وضرب مشاريعهم المقدمة لمؤتمر الحوار دون أن تضع هي مشاريع مقبولة ومنطقية لحل القضية الجنوبية.

لقد طالب أبناء حضرموت بمنحهم الفرصة لحراسة المنشآت النفطية ولم يطالبوا بحصة من النفط مع أن ذلك من حقهم، ومع ذلك يجري حرمانهم من هذه المطالب البسيطة كل هذه السنوات وحينما يتصدى شيخ قبيلة لتلك المطالب يتم قتلة بدم بارد في صورة بشعة ومكررة إذ قتل شقيقة علي حبريش في 2008 بنفس الطريقة وهو يطرح على السلطة مطالب الناس في الحصول على فرص توظيف في شركات النفط،إن هذا الرفض للمطالب وتوظيف منطق القتل هو من سيدفع الناس إلى خيارات أخرى وهو من يرفع سقف المطالب إلى السماء وهو ما يحدث اليوم، فالمطالب السياسية للحراك السلمي هي نتاج مطالب حقوقية، واستمرار رفض هذه المطالب هو ما أنتج الهبة الشعبية التي يتطلع الناس من خلالها إلى فرض واقع جديد يستعيدون من خلاله حقوقهم المصادرة.

إنه صراع وجود إما نكون أو لا نكون يدفع البسطاء ثمنه بكل تأكيد، وأما محاولة تحوير ما يجري إلى انه مقدمة لاستعادة دولة حضرموت أو غيرها فهي محاولة لحقن الشعب ضد بعضه البعض وإفشال أي حركة شعبية تحاول أن تنتزع حقوقها من خلال تخويف الناس بالحرب الأهلية وضرب بعضهم ببعض بينما الفاسدون والنافذون يضلون يرقبون المشهد من بعيد،لكني اعتقد اليوم أن الكثير من أبناء الشمال باتوا يعرفون أن للجنوبيين حقوق مسلوبة وأنه لا يمكن أن تنتزع إلا بالثورة السلمية وفرض واقع جديد على الأرض يجعل الدولة تقدم تنازلات سياسية وحقوقية للحفاظ على البلاد موحداً.

وأما الحراك المطالب بفك الارتباط فإن أي فعل شعبي وسياسي جديد على الأرض في الجنوب فهو يخدمه وقد قلنا من سابق أن الحراك يتسع على الأرض بفعل أخطاء السلطة وعدم مسارعتها إلى حل مشاكل الناس أو على الأقل تطمينهم من خلال قرارات وإجراءات واضحة ومعلنة،كل ما يأتي من السلطة ليس بالجديد،نفس الاسطوانة المشروخة تعيد فقط إنتاج نفسها في واقع ما بعد الثورة، وفي واقع الهبة الشعبية في الجنوب.

 

مقالات الكاتب