أمير المغفلين
بعد مضي عشرين عاما على اتفاقية السلام في أوسلو كان الحصاد كما يلي: عدد المستوطنين اليهود تضاعف من 260 ألفا إلى 520 ألفا ــ الاستيطان ابتلع 42٪ من الأراضي المحتلة ــ أزالت إسرائيل 15 ألف مبنى فلسطيني ــ سيطرت إسرائيل على كامل المنطقة التي تمثل 61٪ من أراضي الضفة الغربية ــ رفضت إسرائيل 94٪ من طلبات البناء للفلسطينيين ــ قطاع غزة أصبح يخسر 76 مليون دولار سنويا جراء منع سكانه من زراعة 35٪ من الأراضي ــ تقليص مساحة الصيد في غزة من 20 ميلا إلى ستة فقط.
هذا ما ذكرته وكالة المساعدات الدولية (وكسفام) في تقرير أعدته بمناسبة الذكرى العشرين لاتفاقية أوسلو التي وقعت في 13 سبتمبر عام 1993، وخلصت منه إلى أن ملايين الفلسطينيين أصبحوا أكثر بؤسا وتعاسة عما كانوا عليه قبل ذلك التاريخ.
لم يتحدث تقرير الوكالة الدولية عن تهويد القدس ولا عن الجدار العازل الذي أدى إلى تشريد خمسة آلاف فلسطيني ولا عن الأسرى الذين تحتجزهم إسرائيل والذين زاد عددهم بنسبة 15٪ عن العام الماضي. كما لم يتحدث عن «التعاون» الكارثي المتمثل في التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل الذي هدفه الأساسي قمع المقاومة وحماية الأمن الإسرائيلي.
غني عن البيان أن ذلك ليس كل حصاد العشرين عاما التي مرت منذ توقيع الاتفاقية في أوسلو، لكنه يظل قدرا كافيا في التدليل على أن ذلك الاتفاق يجسد أكبر وأغرب خدعة تعرض لها الفلسطينيون والعرب في تاريخهم الحديث. ذلك أن أحدا في زماننا لا يستطيع أن يصدق فكرة أن يُغتصب جزء من وطن بقوة السلاح ثم يبتلع بقية الوطن بالحيلة والسياسة وبموافقة القائمين على أمره. صحيح أن الأمريكيين فعلوها مع الهنود الحمر في القرن السابع عشر، واستخدموا في ذلك سلاح الإبادة والإفناء، وسبقوا الإسرائيليين في عقد اتفاقات السلام مع شعوبهم وقبائلهم ثم الانقلاب عليها، لكن ذلك حدث في زمن مختلف وفي عالم مختلف مرر تلك الجريمة التي وقعت في غفلة من الزمن. وذلك كله تغير الآن، إذ تطورت فنون الإبادة وتداخلت المصالح كما تفتحت الأعين وكبرت الآذان.
المدهش في الأمر أن بيانات التغول الإسرائيلي ومخططات ابتلاع الأرض والأدلة والقرائن التي تؤكد الإصرار الإسرائيلي على تصفية القضية. ذلك كله معلن ومعلوم لدى الجميع.
هذا الأسبوع أصدرت تنسيقية العمل الفلسطيني بالقاهرة التي يرأسها القيادي والباحث الفلسطيني عبدالقادر ياسين، دراسة سجلت فيها عصارة الخبرة الفلسطينية خلال العقدين الماضيين، وكان عنوانها «أوسلو ــ عشرون سنة من الكوارث». وأهم ما أبرزته أنها سلطت الأضواء على العوامل التي أفضت إلى تلك الكوارث، التي لم تكن مقصورة على أخطاء القوى الوطنية الفلسطينية والمناورات والاختراقات التي تعرضت لها فحسب، وإنما كان للضعف العربي وانكسار إرادته دوره الذي لا ينكر فيما أصاب القضية الفلسطينية من وهن وانكسار. ذلك طبعا بخلاف التحول الذي حدث في توازنات القوى الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات. وقد خلصت الدراسة إلى أنه لا سبيل إلى مواجهة التحدي المتمثل في التصفية الوشيكة للقضية الفلسطينية سوى التقاء القوى الفلسطينية في جبهة متحدة تتفق على برنامج إجماع وطني للإنقاذ، يصحح المسار ويجنب القضية المصير البائس الذي ينسج لها في مشاورات الغرف المغلقة، وفي أجواء الخلل الفادح في موازين القوى، وهى التي تهيئ الفرصة للتصفية المنشودة بمباركة أغلب الأنظمة العربية الجاهزة لإغلاق الملف، ولم يعد يشغلها الآن سوى كيفية إخراج الصفقة وإسدال الستارة على فصلها الأخير.
لقد أدهشني أن وفدا من رام الله هرول إلى واشنطن استجابة لنداء المباحثات رغم كل ما فعلته إسرائيل لابتلاع الأرض ومحو الخريطة الفلسطينية، الأمر الذي ذكرني بتجربة الشريف حسين مع الإنجليز. الذين ظلوا يخدعونه طول الوقت منذ كان أميرا على مكة (1908 ــ 1917) ويحرضونه على الثورة ضد السلطة العثمانية، ويعدونه بأنه سيكون خليفة للمسلمين، إلى أن حقق لهم مرادهم ثم فوجئ بهم في نهاية المطاف وهم يضعونه في مدرعة بريطانية وينفونه إلى قبرص، ولم يعيدوه إلى عمان إلا ليموت فيها سنة 1931.
ظل الشريف حسين يركض وراء السراب الذي هيأه له الإنجليز، وفي كل مرة كان ينبه إلى مؤامرة يدبرونها ضده فإنه كان يسارع إلى سؤالهم بخصوصها فيدعون البراءة ويواصلون خداعه، ولما تكررت العملية وصفته بعض الكتابات بأنه «أمير المغفلين». وإزاء تكرار وفداحة ما نشهده الآن في فلسطين فإنني أزعم أن ذلك الوصف هو أخف ما يمكن أن يطلق على «شريف» زماننا الذي قرر العودة إلى مفاوضات السلام في واشنطن غير مبال بمسلسل الخديعة المستمر منذ 20 عاما.
*الشرق