فطام علي عبدالله صالح
السلطة مثل الرضاعة، تكون صعبة ومؤلمة جدا عند الفطام. وأفضل مثال على هذا، الحالة التي يمر بها الرئيس السابق علي عبدالله صالح.
عملية الفطام من الرضاعة تكون صعبة ومؤلمة جدا على الطفل والأم أيضا، وكذلك فطام صالح من الرئاسة يبدو صعبا ومؤلما جدا عليه وعلى أمنا جميعا (اليمن). لكن الفرق بين العمليتين أن الأولى تكون عادة ناجحة حين تتم بطريقة تدريجية وسلسة، بينما لا يبدو فطام صالح ناجحا حتى الآن رغم أنه يجري بنفس الخطوات التدريجية والسلسة التي تسير بها الأولى. فكلما بدا أن اليمن تقدمت أكثر في عملية الانتقال السلمي للسلطة، بدا أن صالح يستعيد عافيته ونواياه في استعادة السلطة، كما لوح أخيرا بحديثه عن "العجلة الدوارة"، في حفل الذكرى الـ30 لتأسيس المؤتمر الشعبي العام، قبل أيام.
من أجل فطام سلس وآمن، يفضل أن تلتزم الأم بعدد من خطوات التغيير التدريجي. فإذا كان طفلها اعتمد على الرضاعة الطبيعية من ثديها مباشرة، سيتعين عليها عند الفطام تقليل عدد مرات إرضاع طفلها من ثديها تدريجيا، وتعويض الطفل بإرضاعه من زجاجة الحليب البودرة. وتستمر في تقليل الإرضاع من الثدي حتى الانقطاع التام، ثم يتم تقليل عدد مرات الإرضاع من زجاجة الحليب البودرة بنفس الطريقة حتى الانقطاع التام.
كذلك فعلت اليمن مع صالح. برغم أن المبادرة الخليجية وآليتها المزمنة فرضتا عليها فرضا من قبل المجتمع الدولي وشركاء صالح التاريخيين في الحكم، إلا أن اليمن رضخت للأمر بشكل أو بآخر، ورغم كل شيء، أملا في تجنب الخيارات الأسوأ. بصورة أو بأخرى، لقد تصرفت اليمن مع صالح كأم حقيقية، ولم تنتزع ثديها من فمه عنوة إلا بموافقته، ثديها الذي نعني به هنا رئاسة الجمهورية.
فالمبادرة الخليجية وآليتها المزمنة اللتان تنظمان سير عملية الانتقال السلمي للسلطة، اقترحهما صالح نفسه، ورسم كل معالم العملية الانتقالية بنفسه، وكما يريد هو. والعملية الانتقالية هي اسم الدلع الذي نطلقه على عملية فطام صالح من السلطة، وقد رضخ الجميع لرغبته في أن تجري عملية فطامه من السلطة بطريقة تدريجية، آمنة وسلسة. لكنه ظل متشبثاً بالثدي، وجلس "يتْمَطْمَط" عدة شهور قبل أن يرضخ للأمر الواقع، ويوقع على مبادرة الفطام التي يتخلى بموجبها عن الثدي الذي امتصه طيلة 34 عاما حتى جف.
كان يفترض أن يقلع عن الرضاعة نهائيا، باعتبار أن المبادرة الخليجية أتت من أجل تقديم مخرج آمن له من السلطة بشكل عام، أو بعبارة أخرى: فطام آمن من الرضاعة بكل صورها. لكنه، مثل الكثير من الرضع "الهَوِرين" و"المُرَفِّسين"، انقلب على مبادرة الفطام، معتبرا أنها تتحدث عن فطامه من رئاسة الجمهورية، وليس السلطة إجمالا. وهكذا، انتقل من ممارسة السلطة عبر رئاسة الجمهورية، إلى ممارسة السلطة عبر رئاسة حزب المؤتمر الشعبي العام. بعبارة أخرى، انتقل من رضاعة الثدي مباشرة إلى رضاعة زجاجة الحليب البودرة. الآن، من يستطيع انتزاع الزجاجة منه؟ بالنظر إلى كلمته في حفل ذكرى تأسيس زجاجة الحليب البودرة، الاثنين الماضي، يبدو فطام صالح أمرا صعبا، وهذا لا يمثل سوى الخبر السيئ.
الخبر الأسوأ أنه رضيع فريد من نوعه. ففي حين يفترض أن تأتي رضاعة زجاجة الحليب في سياق عملية فطامه التدريجية والسلسة من السلطة إجمالا، شاهدناه منتصف الأسبوع الماضي، وهو "ماسِك" زجاجة الحليب ويمُجُّها بكل ما أوتي من قوة. وبين كل وقفة وأخرى، يقوم بها للاستراحة وأخذ نَفَس، يهدد أمه (اليمن) بالعودة إلى رضاعة ثديها. وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد.
في الواقع، صالح "مش راضي" إلى الآن "يفْتَطِم" من الرئاسة. فهو لا يتصرف بما يوحي أنه رضيع سابق فعلا، بل ما يزال يتصرف كرئيس جمهورية، ويستغل أي حدث أو مناسبة لتقديم نفسه في صورة الرئيس الذي كانه قبل فبراير 2012. وقد فعل هذا مرارا في الفترة الأخيرة.
صباح عيد الفطر مثلا، وبينما كان الرئيس عبد ربه منصور هادي، يستقبل جموع المهنئين، كان لديه هو جموع مماثلة من المهنئين الذين قام باستقبالهم. بل إنه زاد هذه المرة، فأقام حفلي استقبال خلافا لكل الأعياد التي مرت على اليمن وهو في الرئاسة.
وهذه ليست المناسبة الوحيدة التي استغلها لتقديم نفسه كرئيس أو كصاحب سلطة مستقلة عن سلطات الدولة. فقبل ذلك، بعث برقية تهنئة لنجله أحمد علي بمناسبة بلوغه سن الـ40 عاما، في إشارة لخصومه أنه يعد ابنه لكي يكون الرضيع القادم بعد الرضيع الانتقالي عبد ربه منصور هادي. وبعد عيد الفطر، عند وقوع التفجير الإرهابي الذي استهدف مقر الأمن السياسي في عدن، أصدر بيانا يدين التفجير الذي رأى فيه بصمات انفصالية، حسب البيان. (ما عليك؟! بصمات انفصالية وإلا جهادية وإلا حتى بصمات الخمير الحمر، ما عليك؟! المهم، أنت "افتَطِم" زي الناس، وبدون وجع راس! والبلاد مش ناقصة محللين!).
وهذا لا يمثل سوى غيض من فيض كما يقال. فالرضيع السابق علي عبدالله صالح لا يفرط بفرصة واحدة للظهور علنا وهو يرضع شيئا. هناك أنواع عديدة من الرضع "الهَوِرين" و"السَّرِكين" الذين يصعب فطامهم. فهم يرضعون أصابع أيديهم، وأحيانا أصابع أرجلهم، وأحيانا يلتقطون أي شيء في متناول أيديهم ويبدؤون في رضاعته. هناك من يرضع "حَجَر"، ومن يرضع "دَرْف" (باب)، وهناك من يرضع إطار "طاقَة" (نافذة)، بل إن هناك من يرضع "سُبْلَة دِم" (ذيل قط). وهذا النوع من الرُّضَّع "السَّرِكين" تلجأ أمهاتهم عادة إلى وضع حد لعملية الرضاعة الشاملة التي يمارسونها وتطال كل الأشياء المحيطة بهم، عبر إعطائهم مصاصة بدون حليب، المصاصة المعروفة بـ"الكذابة".
وعلي عبدالله صالح يذكرني بهؤلاء جميعا. فعدا عن أنه يرضع كل شيء كما رأينا في الأمثلة السابقة، تم إعطاؤه المصاصة المعروفة بـ"الكذابة"، والمتمثلة في لقب "الزعيم". لا اعتراض لديّ على إعطائه هذه المصاصة، ولا أظن أن أحدا لديه أي اعتراض. كلما شاهدته ينادى بالزعيم، أقول في نفسي: "مش مشكلة. كذاب يرضع كذابة، وأيش بانخسر؟! المهم يفْتَطِم ونخلص".
لكن فطامه يبدو مستحيلا. فعدا عن أننا لم نرَ منه حتى الآن أي تصرف يوحي بأنه ينوي أن "يفْتَطِم"، شاهدوا كيف يتصرف بخلاف كل الأنواع المعروفة لـ"المَفْطُومين" أو الرضع الذين هم في طور الفطام! إنه يمارس الرضاعة الشاملة بشتى أنواعها، وفي الوقت نفسه. فهو يتصرف كرضيع ثدي في نفس الوقت الذي يرضع فيه زجاجة الحليب البودرة مع "الكذابة" كمان!
في الواقع، إذا كان هناك من عنوان عريض يلخص آخر خطاب له بمناسبة الذكرى الـ30 لتأسيس زجاجة الحليب البودرة، فليس هناك أنسب من العنوان التالي: "مَلْعُون من افْتَطَم!".