
المثقف اليمني في المهجر.. هوية معلقة رغم الدرس الفلسطيني
منذ اندلاع الحرب في اليمن قبل أكثر من عقد، اضطر الكثير من المثقفين اليمنيين إلى مغادرة وطنهم، بحثاً عن حياة آمنة تتيح لهم الاستمرار في ممارسة الإبداع. إلا أن هذا الانتقال لم يكن محض هجرة جغرافية، بل شكّل في جوهره امتداداً لرحلة المثقف الأزلي في البحث عن الذات، ليضيف إليها المثقف اليمني مهمة موازية: البحث عن وطن.
فالمثقف اليمني، كما وصفه الشاعر الكبير عبد الله البردوني، "مواطن بلا وطن"، ليس فقط بسبب التهجير القسري أو ظروف الحرب، بل أيضاً نتيجة شعوره الدائم بالاقتلاع من بيئة ثقافية لم تكن توفر له فضاءً ملائماً للتعبير، فضلاً عن تهميش مستمر لدوره في صياغة وعي مجتمعي متجدد.
- السرد بديلاً عن الغياب
منتصف عام 2014، غادر الشاعر والروائي أحمد السلامي اليمن، مع بدء الانهيار الفعلي للصحافة وتدهور الوضع الاقتصادي. في حديثه لـ"العربي الجديد"، يصف لحظة الرحيل بالشعور القاسي بالاقتلاع، رغم عدم وجود تهديد مباشر. ويضيف: "أكبر خدمة يمكن أن أقدمها لبلدي هي أن أبقى صامداً وأنتج وأفكر بالمستقبل بإيجابية... تعلمت هذا من الفلسطينيين".
- شعور دائم بالاقتلاع من بيئة ثقافية لا توفر فضاءً حراً للتعبير
خلال إقامته لعشر سنوات في الإمارات، ثم انتقاله إلى مصر، اكتشف السلامي بعداً جديداً لتجربته الإبداعية. فبينما منحته الإمارات دروساً في الإنجاز والانضباط، كانت القاهرة بمثابة حضن ثقافي دافئ. هناك كتب روايته الأولى "أجواء مباحة"، إلى جانب مجموعتين شعريتين، معتبراً أن السرد الروائي منحه عمقاً في فهم تعقيدات الواقع اليمني من الخارج.
يقول: "في الغربة، تفكر أكثر في الهوية والانتماء. الكتابة تصبح محاولة لفهم الجذور، وتفكيك أسباب التدهور. إنها مقاومة ناعمة ضد النسيان وضد الطمس".
- التشكيل بين الوطن والمهجر
على الضفة الأخرى من الإبداع، نجد تجربة الفنان التشكيلي ردفان المحمدي، الذي أُجبر على الإقامة في مصر منذ عام 2016 بعد تعذر وصوله إلى بريطانيا لتسلُّم إحدى الجوائز الدولية. لم تمنعه الغربة من ممارسة نشاطه الفني، بل وجد في القاهرة مساحة حرة للعرض، والتفاعل، والتنظيم.
يقول المحمدي للعربي الجديد: "مصر احتضنتني، ومنحتني بيئة مناسبة للإنتاج والمشاركة. أمارس نشاطي دون عوائق، وأشعر بأنني في وطني بين مجتمع محب ومتضامن". ويرى أن التأثر بالمهجر لا بد من أن ينعكس على الأعمال الفنية، إذ بات إنتاجه يحمل بصمات مزدوجة: من اليمن ومصر، مزجاً بين الانتماء والحنين، وبين التأمل في الغربة واستلهام الواقع الجديد.
- هوية معلّقة بين ضفتين
تجربتا السلامي والمحمدي لا تمثلان استثناءً، بل تختزلان مساراً طويلاً من التشتت الثقافي، حيث يظل المثقف اليمني في المهجر مشدوداً بين ضفتي الانتماء والتجدد، الغربة والإبداع، الجرح والقصيدة، الطين واللون.
إنها رحلة البحث عن الذات في فضاء لا يشبه الوطن، والبحث عن وطن لم يعد يشبه نفسه. ولكن في كلا الرحلتين، يتجلى الإبداع كمحاولة للنجاة، لا فقط من الحرب، بل من النسيان.