من برشلونة إلى غزة.. نشطاء العالم يكتبون التاريخ
من 44 دولة جاؤوا يحملون ضمير الإنسانية الحية ويرفعون صوت الشعوب الحرة، ليشكلوا أسطول الصمود العالمي، دعماً لغزة المحاصرة والمستهدفة بحرب إبادة مستمرة منذ أكثر من 700 يوم. حصدت أرواح أكثر من 60 ألف إنسان، أغلبهم من النساء والأطفال والشيوخ، وبفعل هذه الحرب الظالمة تحول القطاع الصغير إلى مقبرة جماعية وصورة دامغة لجرائم الاحتلال الإسرائيلي.
لم يولد هذا التحرك من فراغ، فقد سبقه في العام 2010 "أسطول الحرية" الذي أبحر من تركيا باتجاه غزة، وحينها واجه العدوان الإسرائيلي مباشرة على متن سفينة "مافي مرمرة"، وقتلت إسرائيل عشرة من الناشطين الأتراك في جريمة هزّت الضمير العالمي حينها. ومنذ ذلك التاريخ ظلّت محاولات كسر الحصار تتكرر على نحو متقطع، إلى أن جاءت مبادرات هذا العام التي قادها نشطاء من عدة دول، لكنها اليوم تعود بزخم أكبر، ومن بوابة أوروبا، في لحظة زمنية مفصلية تأتي متزامنة مع أوسع حركة تضامن شعبية تشهدها دول العالم منذ عقود.
ولم تكن فكرة الأسطول مجرّد رحلة بحرية تضامنية، لكنها تمثل صرخة عالمية ضد التواطؤ، ورفضًا عابرًا للحدود ضد جريمة الإبادة التي تشهدها غزة ويشاهدها الجميع على الهواء مباشرة، يقوده نشطاء أوروبيون تدعمهم حركات شعبية آخذة في الاتساع، لم تعد تكتفي بالتظاهر في الشوارع، بل صارت تبحث عن أدوات أكثر تأثيرًا، من بينها كسر الحصار عمليًا، عبر محاولة الوصول إلى غزة بحرًا.
ويواجه هؤلاء النشطاء حكوماتهم التي ما تزال تزوّد إسرائيل بالسلاح وتمنحها غطاءً سياسيًا في المحافل الدولية، كما يواجهون اللوبي الصهيوني في عقر داره، وفي المؤسسات الإعلامية التي تحاول حجب الحقيقة أو تزييفها، لتسقط أوراق التوت عن أدعياء الحضارة والمدنية وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير.
انطلق الأسطول من ميناء برشلونة الإسباني أواخر أغسطس، ليحوّل المتوسط إلى مسرح تضامني مفتوح. مرّ بمحطات في اليونان وإيطاليا والمغرب والجزائر، وكانت كل محطة بمثابة إعلان تضامن جديد، ورسالة مفتوحة يقرأها العالم بأسره مفادها أن غزة ليست وحيدة. وفي تونس اكتسبت الرحلة بعدًا شعبيًا إضافيًا، حيث التحم آلاف التونسيين بالمسار، رافعين شعارات الحرية لفلسطين، في مشهد أعاد للأذهان مكانة تونس كمنبر تاريخي للنضال العربي والمقاومة الفلسطينية منذ أكثر من أربعين سنة.
وما يميز هذا الأسطول أنه ليس فعلًا سياسيًا رسميًا تديره الحكومات، بل هو حراكٌ شعبيٌ عالميٌ يشارك فيه ناشطون، أكاديميون، فنانون، أطباء، طلاب، ورجال دين. جاؤوا من مشارب ومناطق ودول مختلفة، لكنهم يجتمعون على قناعة واحدة وموقف واحد معناه أن الصمت على المجازر مشاركة فيها، وإن الصامتين متواطئون، والخانعين مشاركون ولا عذر لأحد يخذل غزة بعد اليوم.
لقد تحوّل الأسطول إلى حدث عالمي، تغطيه وسائل الإعلام ويحظى باهتمام الجميع، حيث بات صوت النشطاء يتجاوز الحجب والمنع والقمع والتشويه والتشويش، وهاهو يصل مباشرة إلى الرأي العام العالمي.
إن أسطول الصمود يعكس صحوة ضمير إنساني تتجاوز الحدود والخطوط، ليطرح أسئلة مفتوحة حول مستقبل العالم: هل يظل التضامن محصورًا في الرموز والشعارات، أم أنه قادر على الضغط لتغيير السياسات؟ وهاهي إسبانيا العظمى تؤكد صحوة الضمير وانحياز الإنسان للإنسان، وتقرر معاقبة العصابات الصهيونية بسلسلة من العقوبات والإجراءات.
وإزاء هذا الواقع تأتي المبادرات الإنسانية -وإن بدت محدودة أمام آلة الحرب والإجرام الإسرائيلية- إلا أنها تراكم وعيًا جديدًا في عالم اليوم، سيما في الدول الغربية، حيث بمقدور هذه المبادرات أن تضع الحكومات أمام مساءلة متزايدة من شعوبها الحرة. وفي ذلك مكسب كبير، يتمثل في تحويل غزة من قضية محاصرة في الشرق الأوسط، إلى قضية عالمية تجتاز المدن الكبرى بشوارعها النابضة وجامعاتها العريقة فتطرق أبواب البرلمانات بكل ما أوتيت الشعوب من قوة وبأس وعزيمة.
في عالم اليوم وفي ظل سطوة الصوت الحي والصورة المباشرة والبث المقاوِم جاء "صوت هند رجب" ليعيد كتابة السينما وتاريخ الإعلام، من خلال فيلم جسد جريمة مقتل الطفلة بالقصف والقنص الإسرائيلي المتواصل، وفي هذا الفيلم تسنى للعالم أن يسمع صوت طفلة تفارق الحياة على وقع قصف عنيف وإرهاب لا يتوقف، قضت هند آخر لحظات حياتها لكنها أسمعت ضمير العالم آخر نداء لها وهي تطلب الإسعاف وإنقاذ حياتها الواقعة تحت حرب الإبادة.
باختصار، يمكن القول إن أسطول الصمود ليس مجرد سفن تمخر عباب المتوسط، بل هو تجسيد لإرادة الشعوب في مقاومة الظلم، وإعادة الاعتبار للقيم الإنسانية التي أرادت إسرائيل وواشنطن أن تطمرها تحت ركام الخراب والقصف والدعايات الكاذبة والشائعات المخادعة. وبينما يواصل الاحتلال حربه الوحشية، فإن هذه المبادرات تؤكد أن غزة لم ولن تُترك وحيدة، وأن التاريخ لا يُكتب فقط بهمجية الاحتلال وانحطاط داعميه، بل بمواقف الأحرار الذين يؤمنون أن الحق لا يسقط بالتقادم، وأن الحرية فكرة لا تموت، ومقاومة الظلم والاحتلال حق يتصدر كل الحقوق، وحرية تقف على رأس كل الحريات.
وهنا يُكتب التاريخ من جديد.