أبرز الآثار قطع مصنوعة من مرمر الكالسيت العربي..

وجوه مرمرية تحمل الطابع الفني الخاص بجنوب الجزيرة العربية

المدنية أونلاين/الشرق الأوسط:

من قرية الفاو في محافظة السليل التابعة لمنطقة الرياض، خرجت مجموعة من الآثار النحتية تحمل الطابع الفني الخاص بجنوب الجزيرة العربية، وأبرز هذه الآثار قطع مصنوعة من مرمر الكالسيت العربي، منها وجهان يختزلان هذا الأسلوب، ومسلّة تحمل صورة رجل يقف منتصباً، مع سيف مُغمد يتدلّى عند طرف خاصرته. يظهر هذا الطابع الجنوبي كذلك في وجهين مرمريين مماثلين عُثر عليهما في نجران، أقصى جنوب غرب المملكة العربية السعودية، ويشهد هذان الوجهان لحضور هذا الطابع في مناطق عدة من جزيرة العرب الشاسعة.

وجها الفاو من الحجم الصغير، ولم يصلا إلينا بشكل كامل للأسف، وهما من النوع الناتئ الذي يماثل النحت المجسّم الثلاثي الأبعاد. الوجه الأكثر اكتمالاً طوله 21 سنتمتراً وعرضه 13 سنتمتراً، وهو بيضاوي، ويغلب عليه شكل الاستدارة، ويبدو قائماً فوق رقبة أسطوانية عريضة وطويلة، يحدها أفقياً خطان غائران مستديران نُقشا بشكل خفيف في أعلاها. الوجنتان ممتلئتان، الجبين عريض، العينان لوزيتان واسعتان، قوامهما حدقتان واسعتان تتوسط كلاًّ منهما نقطة بؤبؤية غائرة. الحاجبان خطان أفقيان حدّدا كذلك بنقش بسيط، والأنف شريط عمودي مستطيل مربّع الزوايا، يمتدّ فوق نتوء الشفتين المضمومتين. الأذنان مثبتتان في موضعهما بشكل مختزل، وهما أشبه بصدفتين حلزونيتين.

أعلى الرأس مسطّح، والأرجح أنه كان يحمل كتلة من مادة أخرى تجسّد شعره، وفقاً لتقليد خاص بهذا النوع من الفنون. في الخلاصة، يغلب على هذا الوجه الطابع التجريدي الهندسي في تحديد السمات والملامح، ويصعب القول إن كان وجهاً ذكورياً أم أنثوياً، وصياغته تتبع المثال الجنوبي الكلاسيكي بشكل كامل.

الوجه الثاني مشابه، طوله 23 سنتمتراً وعرضه 12 سنتمتراً، ويحمل آثاراً لحلة لونية تظهر من خلال اللون الأسود الذي يحدّد محجري العينين، والبؤبؤين، والحاجبين. يحضر هذا التوشيح اللوني كذلك في شبكة من النقاط تلتف حول الذقن، وتمثّل لحية قصيرة تتّصل بشعر الرأس لتشكلّ معه عقداً يحدّ الوجنتين. الثغر صغير، وفوق شفتيه المطبقتين ترتسم ابتسامة رقيقة وعذبة، وتُعدّ هذه الابتسامة من خصائص الفن الجنوبي العربي، ومن أبرز سمات وجوهه المثالية المجرّدة. كتلة شعر الرأس العليا مفقودة، والعنق مبتورة؛ ممّا يعطي الوجه طابع القناع. في المقابل، تبدو هوية هذا الوجه الذكورية من خلال شبكة النقاط التي تتوزع حول الذقن وتحدّد اللحية، والأرجح أن هذا الوجه من الوجوه الجنائزية، أي من الوجوه التي كانت ترافق شواهد القبور، وترمز إلى حضور أصحابها في الحياة الأخرى.

يتبنّى وجها الفاو أسلوباً تكوّن في جنوب جزيرة العرب في أواخر الألف الأول قبل الميلاد، وتحوّل إلى تقليد ثابت طبع الفن بجماليته الخاصة على مدى قرون طويلة من الزمن. يماثل هذان الوجهان العشرات من الوجوه اليمنية المحفوظة في المتاحف، وهما غير مؤرخان، ويرى أهل الاختصاص أنهما من نتاج مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد، إلى القرن الثالث بعد الميلاد، وهي المرحلة التي ازدهرت فيها قرية الفاو، حيث شكّلت محطة لاستراحة القوافل على طريق التجارة القديم الذي يربط جنوب شبه الجزيرة العربية بشمالها الشرقي، ويُعرف بطريق نجران الجرفاء.

تمثّل مسلّة الفاو المرمرية امتداداً لهذا الأسلوب، غير أنها تتفرّد بعناصر خاصة تتمثّل تحديداً بحضور صاحبها مع سيف مغُمد. طول المسلّة 57 سنتمتراً، وعرضها 30 سنتمتراً، وتشكّل مساحة خلفية لتمثال ناتئ يمثل رجلاً يقف منتصباً رافعاً ذراعيه نحو الأمام، في وضعية ثابتة تميّزت بها فنون جنوب الجزيرة العربية بأنواعها وأشكالها المتعددة. يحضر الوجه في وضعية المواجهة، محدقاً بنظرة أمامية، وفقاً للتأليف التقليدي المكرّس، ويتميّز بشاربين ولحية قصيرة تلتف حول الذقن. يستقرّ هذا الوجه فوق كتفين صغيرتين مستقيمتين، مع شيء من الاستدارة عند الطرفين. القسم الأعلى من الذراعين ثابت ومتصل بالصدر، والقسم الأسفل ممتدّ ومرفوع أفقياً إلى الأمام. تمثل ثنية الذراع زاوية قائمة، وتسبغ على هذه الحركة طابعاً جامداً ومهيباً. اليد اليمنى مبتورة ومفقودة، واليد اليسرى ثابتة في موضعها، مع شبكة من الخطوط تحدّد أصابعها الممدودة إلى الأمام في وضعية الابتهال.

يخلو الجسد من النسب التشريحية، ويبدو قصيراً للغاية قياساً بالوجه، وتشكّل هذه النسبة المحوّرة سمة أخرى من سمات الجمالية الجنوبية العربية. يعلو الصدر شريطان عموديان عريضان يتّصلان بشريط أفقي مماثل يشكّل حزاماً يرتسم حول خصر صاحب المسلّة. ويماثل هذا الشريطان العموديان في الشكل ما يُعرف اليوم بحمّالة السروال. في المقابل، يحد الشريط الأفقي إزار مخطط بخطوط مستقيمة متوازية، ينسدل حتى أسفل الساقين، كاشفاً عن قدمين تشكّلان قاعدة لهذه الكتلة المجسّمة. عند طرف الحزام، على مقربة من اليد اليسرى الممدودة، ثُبت السيف في غمده، وظهر بوضع مائل، ويبدو أن مقبضه فقد الجزء الأعلى منه.

يتبنّى وجها الفاو أسلوباً تكوّن في جنوب جزيرة العرب في أواخر الألف الأول قبل الميلاد، وتحوّل تقليداً ثابتاً طبع الفن بجماليته الخاصة لقرون

تمتاز مسلة الفاو بحضور هذا السيف المثبّت، والشواهد اليمنية التي يحضر فيها هذا السيف قليلة، وتختلف عن هذه المسلة من حيث الأسلوب والتأليف بشكل كبير. يحضر هذا السلاح في لوحة نذرية باسم غوث بن ايل بن عسم، محفوظة في متحف صنعاء الوطني، ومصدرها موقع الجوبة في قتبان، وتمثل شاباً صوِّر وجهه جانبياً، يأتزر بمئزر قصير، شُدّ وسطه بحزام ثُبّت في وسطه خنجر مائل. في المقابل، يحضر صياد مسلّح على نصب جيري باسم عليان بن اسل، محفوظ في المتحف نفسه، وصدره موقع بني نوف في الجوف، ويظهر هذا الصياد مرتدياً إزاراً مثلثا تزيّنه شبكة من الخطوط المستقيمة.

عُرضت قطع الفاو الثلاث في معرض «طرق التجارة القديمة» عند انطلاقه في باريس صيف 2010، وضمّ هذا المعرض لاحقاً عند انتقاله إلى روما قطعاً أثرية مضافة، منها وجهان جنائزيان ذكوريان من نجران، يجسّدان جمالية جنوب جزيرة العرب بأسلوب مثالي. تبعد قرية الفاو عن نجران قرابة 300 كيلومتر، وتشهد الوجوه المرمرية التي خرجت من هذين الموقعين لحضور هذا الفن في سائر أنحاء هذه البقاع.