رثاء صديق قديم!

ناصر يحي

لا أعرف متى كانت المرة الأولى التي تعرفت فيها على فقيد الصحافة الرياضية الأستاذ حسين يوسف؛ الذي توفاه الله الأربعاء الماضي في القاهرة، لكن الذي أنا متأكد منه أنني وعيت نفسي وهو جزء لا يتجزأ من المشهد اليومي في حياتي.. فقد كنت والفقيد جارين نسكن في شارع واحد هو شارع مهدي في الجانب الشرقي من مدينة التواهي في محافظة عدن. ورغم أنه كان يكبرني بعدة سنوات إلا أن ذلك لم يمنع من قيام صداقة بيننا عززها الجوار، وعشق كرة القدم ونادي المدينة التاريخي: نادي شباب التواهي الذي كنا نلتقي فيه معظم أيام الأسبوع، وفترتي الصباح والمساء في أيام الإجازات.

 

 لم تكن هذه الصداقة تخلو من المشاكسات و"المناجمة" فقد كان -رحمه الله- صاحب نكتة، وقدرة على التقاط المواقف المتناقضة والسخرية الهادئة منها جعلته واحدا من ظرفاء المدينة، وجعلت الجلوس معه مصدر سرور وتفكه، ودفعتني لمحاكاته ولو من باب الدفاع عن النفس تجاه سهامه التي يوجهها لمن شاء حظه أن يوقعه في مرماه. وبعد سنوات طويلة وعندما كنت أرى صورته بجوار مقالاته في صفحات الرياضة كنت أقول لمن حولي: هذا أستاذي في النكتة! وأكاد أجزم: لولا أنه كان مجنونا بكرة القدم، وعاش في مجتمع لا يهتم كثيرا بالأدب الساخر؛ لكان يمكن أن يكون كاتبا لامعا من كتاب الأدب الساخر في اليمن، وربما صار محمود السعدني اليمني!

 

 لا زلت أذكر عددا من ظرائفه رغم السنوات الطويلة التي مرت على زمن سماعها منه، وأذكر أنني سمعت منه لأول مرة نكتة المسؤول اليمني الذي سافر للدراسة الأيديولوجية في روسيا، وعندما انتهت الفترة راح يسأل عن ترتيبه وكأنه في مدرسة، وأمام إصراره اضطروا أن يقولوا له إنه حصل على المركز الثالث.. رغم أنه كان يدرس لوحده!

 

 ولأن جاليات عديدة من غير العرب عاشت في عدن، واندمجت -المسلمة منها- في نسيجها الاجتماعي؛ فقد كانت الأجيال الأولى الوافدة من بلدانها الأصلية تعاني صعوبة في الحديث باللغة العربية بطريقة كان أهل عدن يصفون صاحبها بأنه ( يضارب العربي مضاربة).. وقد ولدت هذه الظاهرة حكايات ظريفة سمعت بعضا منها من حسين نفسه عن شخصية معروفة في الوسط الرياضي كان ينتمي لجالية يشتهر أبناؤها بعيونهم الصغيرة كعيون الصينيين.. ولما توفي والده تخلف أحد أصدقائه عن أداء الواجب ، وجاء يعتذر إليه عن تقصيره في حقه في عدم حضور الجنازة والعزاء، لكن الرجل قابله بلطف قائلا: ( عادي.. فرصة ثانية إن شاء الله!).. وطرفة أخرى عن الشخص نفسه أنه تحدى أن يُسأل في الجغرافيا في أي موضوع، فسئل عن عاصمة السعودية؛ فرد مستسهلا الإجابة: (بسيطة جدا.. السعودية عاصمتها: الحج!). وفي عام 1980 في بداية استقراري في صنعاء؛ جاء مرافقا إعلاميا مع بعثة نادي الميناء الرياضي للمشاركة في فعاليات رياضية بمناسبة ذكرى ثورة سبتمبر، ودعوناه مع بعض زملائنا اللاعبين للغذاء، وعندما ذهبت لاصطحابهم فوجئت أن إدارة البعثة رفضت السماح للاعبين بالخروج، وواجهنا موقفا محرجا بعد إعداد كل شيء.. وكان الحل هو أخذ أشخاص آخرين من غير الرياضيين، وحينها لمح حسن شخصية شهيرة هو الوالد علي عمر إن لم أكن مخطئا في اسمه ( رحمه الله إن كان قد مات وسلمه من كل سوء إن كان حيا) الذي كان متخصصا في العلاج الطبيعي، ويقوم بأداء مهامه في الملاعب بحب شديد للرياضة، فالتفت إلي ضاحكا وهو يقول: (هل الأكل كثير؟ إذا كان الأكل كثير.. نأخذ معانا علي عمر!) فقد كان الرجل ضخم الجثة بصورة ملفتة للنظر.

 

 وفي آخر مرة رأيته في صنعاء لم أنج من لسانه وتعليقاته اللاذعة.. فقد رأيته يومها واقفا في مغسلة النخيل في شارع هائل، وبدون مقدمات دخلنا في مشاكسات؛ أو مناجمة باللهجة العدنية؛ حول الوضع المزري لنادي الزمالك في الدوري المصري، والذي كان حسين مناصرا له بجنون، وكأننا لم نفترق منذ أكثر من ثلاثين سنة.. وكأنني أمر من تحت منزله وهو في النافذة فيرميني بتعليق لاذع كعادته.. وأذكر يومها أنني دعوته لمرافقتي في السيارة لأوصله إلى منزله القريب في (اللكمة) فوافق وهو يقول ساخرا: (يا الله.. نعطيك فرصة تعمل خير مرة واحدة في حياتك!).

 

 ولم يكن يسعني لحظتها إلا الضحك، وتفادي مزيد من قذائفه، ويومها كان يعمل في صنعاء في صحيفة الرياضة أو مجلة معين، وفهمت منه أنه سيعود إلى عدن.. ولم أستغرب ذلك فطبيعته التي أعرفها لا تجعله قادرا على الحياة بعيدا عن عدن.. وعن نادي الميناء!

 

***

 في العلاقة المشتركة بيننا كان يوجد شخص آخر كان له تأثير حاسم في حبي لمادة الأدب والتعبير خاصة وتشجيعي على كتابة القصص القصيرة؛ وهو شقيقه الأكبر الأستاذ حسن يوسف، الذي كنت تلميذا عنده في المدرسة الإعدادية المجاورة لشارعنا، وكان على النقيض من شقيقه حسين شغوفا بالأدب والفكر والسياسة، ورغم أنه كان ماركسيا إلا أنه –بحسب ملاحظاتي- كان أقرب للهواة من الاحتراف الحزبي؛ فلم أشعر في يوم ما أنه جزء من النظام؛ بل على العكس فقد عانى كثيرا من استبعاده من الحصول على منحة للدراسة في الخارج رغم ذكائه، وثقافته الواسعة، وإجادته للغتين العربية والإنجليزية، ولست أدري حتى اللحظة لماذا حرم من الدراسة الجامعية؟ ورغم هدوئه الظاهري إلا أن ذلك كان يسبب له ألما عميقا، وفي عصر يوم ونحن في المدرسة كعادتنا نلعب شطرنج أو كرة الطائرة ، وهو مع بعض المعلمين يقومون بتصحيح كراسات التلاميذ، كان هناك اجتماع تثقيفي للطلاب المسافرين للدراسة في الخارج في قاعة المدرسة، وكانت تصل إلى أسماعنا أصوات التصفيق المرنمة على الطريقة الماركسية الشهيرة التي كانت تصدر عن الطلاب في مواقع معينة من المحاضرة.. وساعتها سمعته يقول: (يعطونا منحة ونحن مستعدين نصفق لهم للصبح!) وقد سبب له هذا الشعور بالظلم والحرمان من مواصلة دراسته الجامعية في الخارج حالة من القهر، وأصيب بحالة نفسية بسبب ذلك، ولم ألتقه أبدا منذ غادرت عدن قبل 34 عاما رغم سؤالي عنه كلما عدت، وعرفت من حسين وغيره أنه سافر مرة إلى ليبيا ثم سمعت أنه ذهب إلى الصومال ( الأستاذان حسن وحسين يوسف من أصل صومالي، لكنهما ولدا وتربيا وتعلما في عدن في رعاية جدتهما لأمهما فقد كانا يتيمين).

 

 ربما كنت أكثر واحد استفاد من مكتبة الأستاذ حسن يوسف، وكان يسمح لي بقراءة الكثير مما يشتريه من صحف ومجلات وكتب حتى قبل أن يقرأها، فكنت مثلا أقرأ قبله مجلة الطليعة الماركسية المصرية أيام رئيس تحريرها لطفي الخولي، ومنه استعرت كتبا كثيرة أذكر منها: بعض مؤلفات يوسف إدريس ونجيب محفوظ التي صدرت في السبعينيات، وعودة الروح لتوفيق الحكيم. ومع ذلك كنت أختلف معهم كثيرا في آرائنا السياسية والدينية مع فارق أن (حسينا) لم يكن مهتما كثيرا بهذه الأمور باستثناء المجادلات حول الأهلي والزمالك، وكثيرا ما تناقشنا بحدة بمشاركة الأستاذ (الدكتور حاليا) مختار سلام الذي كان ملما بالفكر الإسلامي مقارنة بالظروف السائدة في تلك الأيام، وكان عونا لنا في محاججة زميله حسن يوسف لكن في إطار مهذب دون أن يصل الأمر إلى القطيعة! وأذكر مرة أنه قال لي: نحن مختلفان في كل شيء؟ فاستدركت كلامه بأننا متفقان في تشجيع نادي شباب التواهي، والإعجاب بالمطرب المصري عبد الحليم حافظ الذي كان مطربه المفضل.

 

***

 قلنا إن فقيد الصحافة الرياضية حسين يوسف كان مغرما بالرياضة منذ صغره، وشجعه رائد الصحافة الرياضية في عدن الأستاذ محمد عبدالله فارع رحمه الله (وهو بالمناسبة كان أيضا من أبناء المدينة نفسها وكان زعيم مشجعي النادي الأهلي المصري وأنا منهم بينما كان حسين زملكاويا متعصبا) على دخول عالم الصحافة، فبدأ يكتب في صحيفة 14 أكتوبر حتى صار أحد أشهر الإعلاميين الرياضيين.. وجاءت فترة فقدت فيها اهتمامي بالرياضة بعد دمج النوادي الرياضية في عدن، وتحديدها بناد واحد في كل منطقة، وتغيير أسمائها في إطار سياسة معينة قيل يومها إن الهدف منها هو: تخليص الرياضة من التعصب، لكني لم أستسغ ما حدث، ولم أستطع أن أحب النادي الجديد الذي نشأ من دمج ناديي المنطقة في ناد جديد أطلق عليه اسم: نادي الشعب قبل أن يسمى: نادي الميناء المعروف حاليا.. وانصرفت عن الرياضة، واستغرب مني ذلك وهو يقول: أما أنا فالرياضة تجري في دمي!

 

 لا أدري هل أطلت في الحديث.. لكن أعترف أن الباعث على ذلك هو معرفتي المتأخرة بأن حسين يوسف كان مريضا يتلقى العلاج في القاهرة منذ ثمانية أشهر، والأكثر مدعاة للحزن أنني كنت فيها قبل أسابيع، والتقيت بالزميل صالح الحميدي الذي عرفت الآن أنه كان قريبا منه في مرضه حتى لحظة وفاته، لكن الحميدي لم يكن يعرف علاقتي بالفقيد رحمه الله.. وعندما عرفت هذه التفاصيل أرسلت له رسالة هاتفية أعاتبه على شيء لم يكن يقصده لكني كنت حزينا حقا.. وكان أشد ما أحزنني أنه تقرر دفنه في القاهرة ولن يتمكن أبناؤه وزوجته من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه، فقد فضلت شقيقته (الأصح أنها خالته فلم يكن لديه أخت حسب علمي) أن يدفن هناك.. والموت في الغربة بعيدا عن الأهل كان أحد الهواجس التي تعتصرني حزنا قبل تحقيق الوحدة، وكثيرا ما كنت أيامها أتخيل هاجسا أن يموت والدي ووالدتي أو أنا في صنعاء ولا أستطيع السفر إلى عدن ووداعهما، ولا يستطيعان أن يودعاني.. وقد وجدت هذه الحالة الإنسانية في قصيدة للشاعر المتنبي قالها عندما علم بموت جدته التي يحبها وهو بعيد عنها:

  بكيت عليها خيفة في حياتها وذاق كلانا ثكل صاحبه قدما

 رحم الله فقيدنا.. وخلفه خيرا في أهله وأولاده.