رفع الفائدة يزيدها تعقيداً..

صدمة تضخمية طويلة الأمد تهدد الاقتصاد العالمي

المدنية أونلاين/الاقتصادية:

بغض النظر عن موقفهم من الحرب الأوكرانية، وعلى من يلقون مسؤوليتها، وتفاصيل المشهد العسكري والسياسي الذي ستؤول إليه، فإن الاتفاق بين الخبراء الآن على أن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا سيؤدي إلى ارتفاع حاد في معدل التضخم العالمي، رغم أن تكلفة المعيشة في عديد من الدول وصلت إلى أعلى مستوى لها منذ أكثر من أربعة عقود.

بلغ معدل التضخم في الولايات المتحدة 7.5 في المائة وفي بريطانيا نحو 5.5 في المائة وفي روسيا 8.73 في المائة والبرازيل 10.38 في المائة وتركيا 48.69 في المائة والأرجنتين 50.7 في المائة، وفي منطقة اليورو المؤلفة من 19 دولة بلغ 5.1 في المائة، وذلك أعلى مستوى منذ 1997.

وفي الواقع فإن آخر ما يحتاج إليه الاقتصاد العالمي الآن صدمة أخرى من نقص الإمدادات، أو تقلص مفاجئ في المعروض من المنتجات الرئيسة مثل الغاز الطبيعي أو النفط أو الحبوب.

ومن المتوقع أن يؤدي تفاقم مشكلة التضخم عالميا إلى زيادة التحديات التي تواجه البنوك المركزية وتحديدا "الفيدرالي الأمريكي"، حيث تحاول البنوك المركزية الكبرى في العالم كبح جماح التضخم ومنع الأسعار من الارتفاع وخروجها خارج نطاق السيطرة.

أحد الأسباب الرئيسة لقناعة الخبراء أن التضخم سيضرب بقوة الاقتصاد العالمي في مرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية، حيث يعود إلى وضع روسيا في مجال الطاقة، فروسيا أكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم، إذ تصدر نحو 23 مليار قدم مكعبة من الغاز يوميا أي 25 في المائة من التجارة العالمية، وتذهب 85 في المائة من هذا الغاز إلى أوروبا.

كما أنها ثاني أكبر مصدر للنفط بعد السعودية، حيث تصدر روسيا أكثر من أربعة ملايين برميل يوميا من النفط الخام، أي ما يقرب من 12 في المائة من التجارة العالمية، ونحو 2.5 مليون برميل يوميا من المنتجات البترولية، أي 10 في المائة من التجارة العالمية، ونحو 60 في المائة من صادرات النفط الروسية تذهب إلى أوروبا و30 في المائة إلى الصين.

ونظرا إلى تلك المكانة المهمة في سوق الطاقة العالمية فإن مخاطر الحرب الروسية - الأوكرانية كبيرة على الاقتصاد الدولي الذي يعتمد على الطاقة حتى يومنا هذا.

لكن الأسئلة التي تطرح نفسها بشأن الصدمة التضخمية التي ستضرب الاقتصاد العالمي في الفترة المقبلة، تدور حول ثلاثة أسئلة رئيسة، الأول يتعلق بالمسارات أو القنوات التي سيسير من خلالها التضخم لينقض على الاقتصاد الدولي، والثاني يدور حول مخاطر التضخم على الاقتصاد العالمي، أما السؤال الثالث والأخير فيدور حول أثر ذلك في قرارات البنوك المركزية، تحديدا "الفيدرالي" في رفع الأسعار .

من جهته، يرى البروفيسور ستيف بلاك سميث أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة لندن أن الحرب الروسية - الأوكرانية ستغير المشهد الاقتصادي العالمي، فخلال العقد الماضي، تجاهل الاقتصاد العالمي والأسواق المالية المخاطر والاحتقان الجيوسياسي العالمي، لكن المرجح الآن أن يكسر التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا هذا النمط، حيث إن العقوبات الدولية المفروضة على روسيا تؤدي إلى عزل الاقتصاد الـ11 في العالم، وأحد أكبر منتجي السلع الأساسية، والتداعيات المباشرة ستكون ارتفاع التضخم وتراجع النمو واضطرابات، وإن كانت محدودة نسبيا في الأسواق المالية.

ويعتقد ستيف بلاك سميث أن هناك عديدا من المسارات أو القنوات التي ستؤدي إلى رفع الأسعار عالميا، لكن أيا كانت تلك المسارات فإن جوهرها يقوم على نقص العرض في مواجهة الطلب.

ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن المسارات الرئيسة ترتبط بالمكانة التي تتمتع بها روسيا في الأساس وأوكرانيا إلى حد ما فيما يتعلق بمساهمتهما في إنتاج عديد من السلع الأساسية الضرورية لعمل الاقتصاد الدولي، وأبرزها النفط والغاز لروسيا وكذلك المعادن، والقمح لكل من روسيا وأوكرانيا، ثم هناك مشكلة سلاسل التوريد الناجمة عن اضطراب خطوط التجارة الدولية".

وبالفعل فقد ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا 70 في المائة منذ التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، كما قفزت أسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقة منذ 2014، كما أن بعض الدول ستتأثر أكثر من غيرها، فالاتحاد الأوروبي يعتمد على الغاز الروسي 40 في المائة من إمدادات الطاقة، ويصل في جمهورية التشيك ولاتفيا إلى 100 في المائة، بينما تعد ألمانيا من أكثر دول الاتحاد الأوروبي اعتمادا على مصادر الطاقة الخارجية في العقدين الماضيين 67 في المائة، نتيجة تقليص إنتاجها من الطاقة النووية.

وعلى الرغم من ثقة معظم الخبراء بأن روسيا ستواصل إمداد الغرب باحتياجاته من الغاز والنفط، حيث تجني يوميا 700 مليون دولار، فإن إم. سي. كريس الباحث الاقتصادي في مجال الطاقة يعلق لـ"الاقتصادية" قائلا "لدى بوتين مصلحة قوية في الحفاظ على تدفق الغاز والنفط الروسي لأوروبا، أما الغرب فلديه مصلحة قوية في الشراء، وإذا اختل هذا الوضع فإننا سنشهد أكبر كارثة تضخمية منذ عقود طويلة".

ويضيف "حتى لو استمرت عمليات الضخ، فإن معدل التضخم بعد الحرب سيكون أعلى بشكل كبير مما كان متوقعا، وسيستمر لفترة أطول كثيرا".

وإذا كان النفط والغاز القناة الأولى التي ستقود إلى الارتفاع المقبل في معدلات التضخم، فإن روسيا تعد لاعبا كبيرا في سوق النحاس والألمنيوم والبلاديوم، وقد تؤدي الاضطرابات في الإنتاج أو تسليم العقود المتفق عليها، إلى الإضرار بصناعة السيارات وكذلك الهواتف المحمولة، وتعد شركة إم سي نوريلسك أكبر منتج للبلاديوم في العالم حيث تمتلك - وفقا لبعض التقديرات - نحو 40 في المائة من إجمالي الإنتاج العالمي.

كما أن روسيا منتج رئيس لمادة اليوريا والبوتاس والأسمدة، وهذا يعني أن نقص الإمدادات الروسية في تلك المواد كفيل بإحداث هزة كبيرة في الاقتصاد الدولي نتيجة الارتفاع المتوقع للأسعار.

مع هذا يرى الدكتور هاري أرثر أستاذ مادة المحاصيل في جامعة جلاسكو أن ارتفاع الأسعار سيتركز بشكل أساس في الحبوب خاصة القمح وسيؤثر بقوة في ميزانيات الدعم الحكومي للطعام خاصة في دول العالم الثالث.

ويقول لـ"الاقتصادية"، "إنه من المتوقع ارتفاع أسعار الغذاء بعد أن قفزت أسعار القمح إلى أعلى مستوى منذ 2008، فمنذ منتصف العقد الماضي تفوقت روسيا على الولايات المتحدة وكندا لتصبح أكبر مصدر في العالم، بينما حظيت أوكرانيا بالمركز الخامس عالميا وبلقب سلة الخبز الأوروبي، ونظرا إلى أن أوكرانيا تصدر نحو 95 في المائة من إنتاجها من القمح عبر موانئها على البحر الأسود، فإن حصار الأسطول الروسي للموانئ الأوكرانية يعني حرمان الأسواق العالمية من حصة ضخمة من القمح، وإذا استمرت تلك الأزمة لشهور فإن معدلات التضخم ستقفز قفزات موجعة لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتركيا وبنجلادش، وجميعها يعتمد على القمح الروسي والأوكراني".

مع هذا ترى تشارلوت إيان نائبة رئيس اتحاد الشحن البحري أنه على الرغم من أن أسعار الطاقة المرتفعة ستمثل أكبر مصدر للضغوط التضخمية، إلا أن الاضطرابات الجديدة في طرق التجارة ستضيف مزيدا من التكاليف وأوقات التسليم إلى الشركات، ما سيسهم في ارتفاع أسعار السلع.

وتؤكد لـ"الاقتصادية" أن هذا الصراع له تأثير خاص في صناعة الشحن التي عانت بالفعل نقص الحاويات ووباء كوفيد وانسداد مجرى قناة السويس، كما "يجب أن نأخذ في الحسبان ما أشارت إليه غرفة الشحن الدولية من أن ما يقرب من 15 في المائة من البحارة في العالم من الروس والأوكرانيين، وغالبا ستتأثر سلاسل التوريد والتكاليف إذا تم تقييد حرية الحركة لمثل هذا الجزء الكبير من القوة العاملة".

وإذا كانت تلك هي القنوات الرئيسة التي ستغذي التضخم في الاقتصاد العالمي في الأشهر المقبلة فإن السؤال المطروح سيتعلق بالمخاطر المتوقعة على الاقتصاد الدولي نتيجة ارتفاع معدلات التضخم؟

ربما تبدو الملاحظة البارزة في الوقت الراهن تغير المزاج العام بين الخبراء قبل الحرب الأوكرانية وبعدها فيما يتعلق بشأن معدل التضخم وأمده. فبينما كانت أغلب التقديرات تشير إلى ارتفاع التضخم من أبريل المقبل لبضعة أشهر مع انحساره في منتصف العام، فإن الحرب الروسية - الأوكرانية تجعل أغلب التوقعات تشير الآن إلى أن معدلات التضخم ستكون أعلى من المتوقع ولفترات زمنية أطول. لكن الأكثر إيلاما أن الحرب تأتي في الوقت الذي بدأت فيه أوروبا في التعافي الاقتصادي من جائحة كورونا.

ويعلق ديفيد فيليب الباحث الاقتصادي لـ"الاقتصادية" قائلا "التوتر الجيوسياسي العالمي، والتضخم سيؤديان إلى تراجع معدل نمو الاقتصاد الدولي بمقدار نقطة مئوية، وقد خفض بنك جي بي مورجان توقعاته للنمو في الربع الأول من هذا العام لمنطقة اليورو نتيجة الحرب من 1.5 في المائة إلى 1 في المائة فقط".

ويضيف "ارتفاع الأسعار لن تقف تأثيراته على نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي، إنما يمكن أن تمتد إلى معدلات التجارة الدولية التي قد تواجه تراجعا في معدلات النمو نتيجة انكماش الاستهلاك الذي سيتأثر بشدة بارتفاع الأسعار".

مع هذا يرى بعض الخبراء أن المخاطر الناجمة عن زيادة نسب التضخم العالمية، قد تسفر عن أضرار بسوق العمل والقدرة الاستثمارية للشركات في الوقت ذاته، إذ يمكن أن تسفر زيادة أسعار السلع وتراجع معيشة الطبقات العاملة عن ضغوط من قبل النقابات العمالية لرفع الأجور، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى عمليات تسريح للعمال حتى تستطيع الشركات التأقلم مع ميزانيات الأجور.

كما أن معدلات الربح يمكن أن تنخفض سواء لزيادة الأجور أو تراجع الاستهلاك العام نتيجة ارتفاع أسعار السلع والخدمات، ما سيضعف القدرة على التوسع لدى الشركات ويثبط من الرغبة في دعم الاستثمار لدى المستثمرين، يضاف إلى ذلك أن العلاقات الاقتصادية العالمة الإيجابية هي نتيجة تعاون دولي بين النظم المختلفة، ولا شك أن العقوبات الدولية التي ستتعرض لها روسيا توجد مناخا من عدم الثقة الدولية، وهذا سبب آخر يضاف إلى التضخم يمكن أن تكون له نتائج سلبية على الاقتصاد الدولي.

يظل السؤال الأخير: ما العمل في ظل هذا التحدي الاقتصادي؟ يبحث عن إجابة بشأن ما الذي يمكن أن تفعله البنوك المركزية للتعامل مع الوضع.

تطرح إيفلين توم الاستشارية في بنك إنجلترا وجهة نظرها في هذا الشأن بالقول "التريث" هو الحل.

وتقول لـ"الاقتصادية"، "ربما تكون الإجابة النهائية أو الحل الأخير لمواجهة التضخم هو رفع أسعار الفائدة، لكن الإسراع برفعها الآن ربما يزيد المشهد تعقيدا، ويؤدي إلى انسحاب رؤوس الأموال من أي عملية استثمارية، علينا مراقبة البيانات وتحديدا التوظيف وإنفاق المستهلكين والضغوط التضخمية، إذ يمكن أن تتحمل الشركات جزءا كبيرا من ارتفاع الأسعار، على أمل الإبقاء على التضخم منخفضا وكذلك أسعار الفائدة، ما يساعدها على الاقتراض والتوسع".

لكنها تضيف "إذا لم يكن هناك من سبيل أمام (الفيدرالي الأمريكي) للتغلب على مشكلات سلاسل التوريد وارتفاع أسعار النفط والغاز سوى رفع أسعار الفائدة لامتصاص القوى التضخمية، فإن عليه القيام بذلك، لكن تدريجيا".