كتّاب يقتفون آثار كتّاب آخرين

المدنية أونلاين ـ متابعات خاصة :

قد تكون السيرة الذاتية، في تعريفها الأدقّ، مُساحة يُريد منها كاتبها لا استحضار زمنٍ مضى فقط، إنّما تشارك هذا الزمن، بتجاربه المختلفة وأسراره المتنوّعة، بالإضافة إلى فضائحه وانكساراته وهزائمه مع القرّاء الذين سيطالعون قصصًا حدثت بالفعل، وتجارب كانت خاصّة قبل أن يجعلها صاحبها، بإطلاق سراح سيرته الذاتية، مُتاحة لمن يودّ أن يطّلع عليها. ولكن ماذا بشأن من لم يكتب سيرته؟ نتوقّف هنا عند أربعة كتب لكتّاب وصحافيين اقتفوا فيها أثر كتّاب آخرين.

 

أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرّمة

يستهلّ الكاتب والصحفيّ المصريّ محمد شعير (1974) كتابه "أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرّمة" (دار العين، 2018) بالجملة التالية: "انخفاض مُفاجئ في درجات الحرارة. الجو أقرب إلى البرودة، والسحب الخريفية تغطّي سماء القاهرة. الشيوعيون في سجن المحاريق بالواحات، بينما تتواصل الحملات الإعلامية ضدّهم. لص مجهول يسطو على كرمة ابن هانئ، بيت الشاعر أحمد شوقي".

بهذا الاستهلال، يمهّد شعير لما سيأتي في كتابه، ويوحي للقارئ في الوقت نفسه بأنّ ما هو مقبل عليه في الصفحات التالية، ليس إلّا حكاية وسيرة أشهر روايات الكاتب المصريّ الراحل نجيب محفوظ (1911-2006) التي عُرفت، ولسنوات عديدة، بالرواية الملعونة، أو اللعنة التي طاردت صاحبها حتّى باب قبره.

الحديث هنا عن "أولاد حارتنا" التي تعقّب محمد شعير ما تعرّضت له منذ أن نُشرت على حلقات في صحيفة "الأهرام"، وحتّى وفاة محفوظ الذي عاش حياته ما بعد نشرها يُعاين ما يُحكى عليه ويُحاك ضدّه. وبين هذين التاريخين، يوثّق شعير الحرائق التي اندلعت بعد نشر الرواية، والجدل الذي تسبّبت به، والهجمات التي طالت محفوظ المُتّهم بالتعرّض للأنبياء، الأمر الذي جعل من "أولاد حارتنا" سببًا كافيًا لمحاولة اغتياله التي نجى منها بأعجوبة.

في أثر عنايات الزيات

أفاقت الكاتبة المصرية عنايات الزيّات (1936-1963) في العشرين من كانون الثاني/ يناير عام 1963 لتجد نفسها رهينة رغبتها المُلحّة بإنهاء حياتها. وتحت تأثير هذه الرغبة التي لطالما طاردتها، ابتلعت علبة حبوب منوّمة، لتتحوّل بعد ساعات إلى مجرّد جثّة على سريرها في شقّتها الواقعة في منطقة الدقّي في مدينة القاهرة.

ما الذي حدث يومها؟ ولماذا حدث؟ هذا بالضبط ما تُحاول الشاعرة المصرية إيمان مرسال (1966) الإجابة عنه في كتابها "في أثر عنايات الزيات" (الكتب خان 2019) الذي جاء على شكل سيرة ذاتية للزيّات التي عانت ولسنوات طويلة من اضطّرابات نفسية بدأت بتقلّبات مزاج حادّة، ونوبات أرق وهلع مستمرّة، قادتها في نهاية المطاف إلى مصيرها هذا الذي قاد مرسال إلى اقتفاء أثرها وتدوين قصّتها التي لملمت بعض تفاصيلها وأجزائها من خلال لقاءات مع عائلتها وأصدقائها، لتجمعها فيما بعد داخل هذا الكتاب الذي مزجت فيه ما هو شخصي بما هو هامشي وعام، لتخرج بهذه السيرة التي تُعيد عنايات الزيات إلى الواجهة بعد أكثر من 57 عامًا على انتحارها.

كافكا: السنوات الأولى

حينما دخل الباحث الألمانيّ راينر شتاخ (1951) عوالم الكاتب التشيكيّ فرانز كافكا (1883-1924) من أجل أطروحته لنيل الدكتوراة، وجد نفسه، بعد نشرها تحت عنوان "أسطورة كافكا الإيروسية"، عالقًا في ذلك الفضاء الذي أغراه بالبقاء، وحمله على التجوّل فيه بتمهّل مكتشفًا ما فاته حينما كتب أطروحته، وما فات غيره ممّن اشتغلوا على كتابة سيرة كافكا التي ظلّت ناقصة في نظر شتاخ الذي دخل حياة صاحب "المسخ" منقّبًا عمّا أُغفل وهُمّش.

بعد سبع سنوات مرّت على نشره لأطروحته، قرّر شتاخ اقتفاء أثر كافكا، وتفرّغ لهذه المهمّة التي ستأخذ منه ثمانية عشر عامًا دوّن فيها، منذ 1996 وحتّى 2014، سيرة جديدة وضخمة لصاحب "القلعة"، جاءت في ثلاثة أجزاء نقلت (الكتب خان) الجزء الثالث منها إلى اللغة العربية العام الماضي تحت عنوان "كافكا: السنوات الأولى" ترجمة هبة الله فتحي. وفيه، هذا الجزء، يعود شتاخ إلى سنوات كافكا الأولى بعد أن بدأ الجزء الأوّل والثاني انطلاقًا من حادثة وفاته. هكذا، سيطارد أصول عائلته، ويدوّن أحوال مدينة براغ، وتفاصيل تلك الحقبة الزمنية، والحالة النفسية لكافكا عند دخوله إلى المدرسة، وغيرها من التفاصيل وصولًا إلى بداية علاقته بالأدب.

رامبو وزمن القتلة

إنّ العنوان العريض الذي يُمكن من خلاله تقديم أو تعريف كتاب الأمريكيّ هنري ميللر (1891-1980) "رامبو وزمن القتلة" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979) ترجمة سعدي يوسف؛ هو: مُحاولة في كتابة سيرة ذاتية للشّاعر الفرنسيّ آرثر رامبو (1854-1891)،

لكنّ الكاتب الأمريكيّ لا يكتفي بهذا القدر، ولا يقف عند هذا العنوان الذي سيفرض عليه إن التزام به ألّا يخرج عن مسار تاريخيّ وخطّ زمنيّ يبدأ لحظة ولادة رامبو في شارلفين شمال فرنسا، ويمرّ بفترة طفولته ومراهقته، حيث سيكتب الشّعر في السادسة عشر من العمر، قبل أن يدخل في علاقة مثلية مع الشاعر الفرنسيّ بول برلين ويكتب بعدها "الإشراقات" التي جمعت قصائد عبّرت عن حالة نفسية معينة حينما حاولت أن تساوي بين الواقع والهذيان، وهكذا وصولًا إلى وفاته في مارسيليا بعد بتر ساقه سنة 1891.

لا يُهمل ميللر هذا الخط الزمنيّ، ولكنّه سيدوّن أحداثه انطلاقًا من مقاربة حياته كمتشرّد بحياة الشّاعر الفرنسيّ بعد أن وجد أنّ تجاربهما مشتركة، فيمكن من خلال طفولته أن يتصوّر طفولة رامبو، وغيرها من فصول حياته التي دوّن جزءًا منها من خلال مقارنتها بحياة الفنّان الهولنديّ فان غوخ.