إبراهيم جحوش.. إرادة الصائغ الأصم ومدرب الإشارة

المدنية أونلاين ـ صحف :

نهاية تسعينات القرن الماضي كان الناس ينتظرون دخول الألفية الجديدة، مترقبين التغيير الذي سيقلب الموازين.. حينها كانت حكاية مشكلة الحاسوب والرقم (صِفر) إذا ما دخل عام 2000.

“بالنسبة لي كان دخول العام 2000 نقطة التحول، فقد تدهورت صحتي جدًا بسبب الحمى الشوكية التي استفحلت بالدماغ وبقيت أسبوعاً في غيبوبة، أفقت فجأة في الـ 10 من يناير”، قال إبراهيم جحوش.

وأضاف لـ البوابة اليمنية للصحافة الإنسانية – أنسم: ” عندما أفقت لم أكن أسمع شيئًا، فقد فقدت السمع تمامًا، لكني سمعت صوت الحنان (أمي) وتمكنت من قراءة شفيتها بدون أي تدريب”.

واستدرك:”ما الذي تعتقدين؟! رحت أضرب راسي بالجدار!! أو خبطت رأسي وأذني بكفي!! بالعكس، لقد رضيت بما قسم الله”، قال باعتزاز وأضاف لـ أنسم: “لا أخفيك أنني تلقائيًا في أول يوم فقت من غيبوبتي فاقدًا للسمع، تذكرت كل شخص أصم قابلته وتمنيت أن أزورهم وأقول لهم أنا الآن مثلكم”.

كان إبراهيم حينها في الـ 20 من عمره، عقب الإنتهاء من المرحلة الثانوية، “كان طموحي أن أكمل الدراسة الجامعية وتعثرت بسبب الإصابة بالصمم” قال.

 

ابراهيم أثناء درس الانجليزي وأحد طلابه.. من صفحة بالفيس
ابراهيم أثناء درس الانجليزي وأحد طلابه.. من صفحتة بالفيس

نموذج كفاح

يمثل إبراهيم جحوش المولود في 1979 بصنعاء، نموذجًا حيًا للكفاح وعدم اليأس، ولم يتخلى عن أحلامه التي بدأها فور عودته من رحلة العلاج التي فشلت بإعادة السمع إليه في2001، فبدأ بالالتحاق بجمعية الصم والبكم ومركز التأهيل المهني لذوي الاحتياجات الخاصة وبعد عام تم اعتماده مدربًا لديهم، كما عمل مدربًا للصم والبكم في مدينة التكنولوجيا والاتصالات بصنعاء، يقول: “بدأت أشعر بمعاناة الصم من حولي واستهواني العمل معهم فكان أول عمل أقدمه لهم هو كتاب لغة الإشارة للصم والبكم وإشارات الحاسوب”.

في 2003 بدأ حياته العملية بوظيفة كاتب في اللجنة الوطنية للطاقة الذرية من حصة الـ 5% للمعاقين بوظائف الدولة، “التحاقي باللجنة الوطنية للطاقة الذرية أعطاني حافزًا، لازم أكمل تعليمي” قال لـ أنسم.

حصل إبراهيم على دبلوم النظام المحاسبي المتكامل من مؤسسة يمن سوفت وتدرَّج في اللجنة الوطنية للطاقة الذرية من كاتب لطباع لرئيس قسم الاستحقاقات إلى أن وصل إلى رأس إدارة التدريب باللجنة، خلال ذلك استطاع أن يكمل تعليمه ونال دبلوم علوم إدارية من كلية المجتمع عام 2010، وفي العام 2015 حصل على البكالوريوس في نظم المعلومات الإدارية.

لم يتوقف الشاب الطامح وظلت اللغة الإنجليزية هاجسه، فبدأ تعلمها منفردًا في البيت وعلى صفحات الإنترنت وفي 2012 التحق بدراستها في معهد (يالي) مجتازًا مستويات متقدمة، ليتم في 2015 افتتاح فصل للصم في ذات المعهد بعد أن قدم مقترحًا للإدارة بذلك، فكان إبراهيم هو المعلم فيه، ينقل تجربته لأقرانه وفق برنامج دراسي متخصص أعده لهم بنفسه.

يقول جحوش لـ أنسم: “في مرحلة السمع كانت أمنيتي تعلٌّم اللغة الانجليزية، لكن الله لم يأذن لي، كان تأخيرها خيراً، فتعلمت اللغة الإنجليزية واكتسبت منها ما يساعدني للتواصل مع العالم واكتساب وتبادل الخبرات”.

 
ابراهيم صانع الفضيات تصوير صفية مهدي لأنسم
ابراهيم صانع الفضياتفي معمله، تصوير صفية مهدي لأنسم

الصائغ الشغوف

بالنسبة لإبراهيم الذي يعمل حاليًا في صياغة الفضيات ولديه معمل خاص يحمل اسم العائلة (جحوش) في سوق الملح الشهير بصنعاء القديمة -وسط العاصمة صنعاء-، فإنه يستشعر التفاصيل والجمال إذ يقضي ساعات طويلة لإنتاج خاتم أو عقد مرصع بالعقيق و الأحجار الكريمة والفصوص، يقول لـ أنسم: “فقداني للسمع جعلني أصغي لما بين يديَّ كثيرًا وإستمع إليه فقط”.

عُرف عن إبراهيم مهارته وعشقه لمهنته في صياغة الفضة وترصيعها بالعقيق اليماني والأحجار الكريمة، الذي بدأ تعلمها – منذ كان صغيرًا – من والده، “حب وعشق صياغة الفضيات يكبر كل يوم وما أكسبه منها له مذاق خاص ويأتي بعد عناء وتعب شديد”، قال. 

يحرص صائغ الفضيات الشغوف على التواجد في السوشيال ميديا للتسويق والترويج لمنتجاته وتلقي الطلبات، كما لا يكتفي بصياغة وتشكيل الفضة بتصميمات خاصة تميزه عن غيره، بل يبحث دومًا عن الجديد وعن ما يميز شغفه، “تعلمت حروف (بريل) من أجل المكفوفين لتلبية احتياجاتهم وإضافتها للتصاميم.. أحب التحدي”، قال مبتسمًا.

نقطة ضوء

تمثل تجربة إبراهيم نقطة ضوء ضمن شريحة ذوي الاحتياجات الخاصة التي تزيد معاناتهم في ظل الوضع الكارثي الذي يعيشه اليمن منذ سنوات، إذ سعى في أغسطس 2017 لتأسيس منظمته (صدى) المهتمة بتسخير التكنولوجيا لذوي الاحتياجات وتخفيف الإعاقة، ودفع ذوي الاحتياجات إلى تقدير قدراتهم وتعزيزها، محققًا أمنيته عندما فاق من الغيبوبة بالتواصل معهم.

يقول جحوش الرئيس في منظمة صدى التي بدأت نشاطها رسميًا بعد استخراج التراخيص مطلع 2018 لـ أنسم: “أنشأت المنظمة بدافع وحافز ذاتي نظير ما لقيت من تجربتي مع التقنيات من أشياء تساعدنا وتخفف علينا شدة الإعاقة”.

 
رئيس منظمة صدى في مؤتمر 2018، تصوير فؤاد الحرازي

يسعى إبراهيم دائمًا لتحقيق ما يريد ولا ينتظر، “لو كل إنسان انتظر لمن سيهتم به، فلن يأتي أحد”، قال بثقة وأضاف: “لهذا أول ما تبادر إلى ذهني هو النبش بين هؤلاء الناس من ذوي الإرادات واستثمار طاقاتهم حتى يكونوا ناس فاعلين ومؤثرين في المجتمع”. 

ويوضح جحوش صاحب كتاب لغة الإشارة للصم والبكم لـ أنسم: “عندما كنت طالبًا في الجامعة كنت أصل بصعوبة للمعلومة فبعض المدرسين لا يعرفون الطرق الخاصة بالإشارة لتدريس طالبًا فاقدًا السمع”، وتابع: “بما أني أسست منظمة محلية لذوي القدرات الخاصة من المعاقين.. سأهتم وأعوض حرماني من كل شيء احتجته وأوصله لكلِ من يستحقه من ذوي الإرادة”.

يحرص إبراهيم على استعمال كلمة (ذوي الإرادة) إيمانًا منه بأنهم أقوياء وعازمون وليسوا عاجزين وأن لديهم قدرات لا إعاقات، وهو ما تبناه مؤتمر منظمته EFFECT في أكتوبر 2018، “نحضِّر الآن لمؤتمر EFFECT 2 ونأمل أن يكون له صدىً أوسع ويخرج بالعديد من التوصيات التي من شأنها إحداث تغيير بحياة ذوي الإرادة”.

 

حياتان

خلال عشرين عامًا من أعوامه الـ 40، سمع إبراهيم الكثير، لكنه بفقدانه السمع منذ 20 عامًا أيضًا، لم ينسَ مما سمعه شيء ويتذكر التفاصيل بسهولة، سيحدثك عن الموسيقى والفنانين: أم كلثوم وعبد الحليم وفريد وعبد الوهاب، ومن اليمن الحارثي والآنسي والسمة الذين يحبهم كثيرًا ويتذكر أغانيهم ويتغنى بها كثيرًا، سيحدثك عن عبد الباسط عبد الصمد والحصري وتلاوة محمد حسين عامر والقريطي، “لقد عاصرت حياة السمع و الآن أعاصر اللاسمع، وهذه نعمة و الحمد لله” قال إبراهيم بإيمان.