شبام: مدينة الطين المتقدمة بيئياً

المدنية أونلاين ـ صحف :

اشتهر اليمنيون قديماً بكونهم مهندسون مّهَرة، شيدوا المدن التي خلدتها الحضارات، وابتكروا فيها تقنيات هندسية ارتبطت عبر التاريخ بهم، وظلت تخصهم. فهم أول من شيد البيوت بطوابق عمودية منذ ما قبل التاريخ، كان أولها قصر غمدان في صنعاء والذي ذكر بأنه كان مكون من 20 طابقاً ترنو نحو السماء. وشيدوا أول ناطحات السحاب التي عرفها العالم في حضرموت، وهم أول من ابتكر وشيد السدود، وتشير كتب التاريخ أن سد مارب العظيم هو أقدم سد عرفته الأرض.

لكن اليمنيين اليوم، فقدوا الاهتمام بذلك كله، ولم يتمكنوا من التقاط ومعرفة السر الذي ميز مبانيهم القديمة عن غيرهم. فبمجرد النظر لمدن الطين في حضرموت وصنعاء وزبيد، وبعض بيوت الريف اليمني، تتضح فكرة علمية كبيرة تميل فيها فكرة المقارنة نحو طريقة التشييد القديم متجاوزة الجديد. فالقديم كان متقدماً بيئياً وهندسياً بشكل لافت. في حين تظهر المدن العصرية محلياً التي شيدها الاسمنت واحجار الزينة بصورة مشوهة وبلا هوية أو ارتفاعات موحدة كنمط البناء اليمني في الماضي. وما هو أهم أن المدن الحديثة في اليمن هي مدن بلا جمال وبلا مساحات خضراء، ولا تراعي البيئة كمدن الماضي التي شيدت من الطين والقش والخشب، وظلت صامدة طيلة القرون والسنوات والأحداث. اليكم قصة طين شبام يتعقبها موقع "حلم أخضر" بالمصادر العلمية، عن براعة مدينة شبام كنموذج متقدم عصرياً، يؤكد ان الاستعانة بالماضي يعد تقدماً هندسياً وبيئياً فريد من نوعه.

شبام: 500 ناطحة سحاب .. في سطور

تعرف شبام باعتبارها مدينة أثرية مسورة، في محافظة حضرموت شرق اليمن. والتي تبعد حوالي 990 كيلومتر عن العاصمة اليمنية صنعاء. يعود تاريخ هذه المدينة إلى 600 سنة، القرن 16 للميلاد. وهي تشكل أحد أقدم النماذج المعمارية والبيئية، وأفضلها على الاطلاق من حيث التنظيم المدني الدقيق المرتكز على مبدأ البناء الرأسي أو العمودي.

في الثلاثينيات من القرن الماضي، أطلقت عليها الرحالة والمستشرقة البريطانية، فريا مادلين ستارك، اسم: "مانهاتن الصحراء" نظراً لمبانيها البرجية الشاهقة عالية الارتفاع، المنبثقة من الصخور والمتراصة والمجاورة لبعضها البعض على نحو فريد وسط الصحراء.

وتاريخياً، تعتبر شبام حضرموت أقدم ناطحات السحاب في العالم، حيث تتضمن 500 ناطحة سحاب تتراوح ارتفاعاتها بين 23 مترا إلى 24 متراً. ومما يميز هذه البنايات أنه تم تشييدها من مادة الطين وجذوع النخيل والماء. وفي العام 1982 سجلتها المنظمة الأممية اليونسكو على قائمة التراث العالمي، وفي يوليو 2015، أعلنت منظمة "اليونيسكو" بان مدينة شبام على قائمة مواقع التراث العالمي المعرضة للخطر. وبحسب اليونسكو " تشكل هذه المدينة المسوّرة أحد أقدم النماذج وأفضلها للتنظيم المدني الدقيق المرتكز على مبدأ البناء المرتفع".

وطبقاً لـ إحدى المصادر، تتميّز مباني شبام بطوابقها الثمانية، وبأبوابها ونوافذها ذات الطّراز الهندسي التقليدي، ويشير المؤرخون إلى أن مدينة شبام القديمة كانت أكبر حجماً من المدينة الحالية، ويرجحون أنّها كانت تمتد حتى المرتفعات الجبلية المشرفة، عليها إلا أنّها دمرت على مرحلتين: الأولى: كانت في القرن 12 للميلاد. والمرحلة الثانية: دمرت في القرن 15 للميلاد، عندما تعرضت شبام حضرموت لسيول غزيرة، أدت لحدوث فيضانات عالية اجتاحت المدينة، وتسببت في تدمير أجزاء كبيرة من ناطحات السحاب.

شبام: أهم المزايا البيئية لبيوت الطين

تكمن الفكرة الفريدة لبيوت الطين في شبام حضرموت، في أنها تستجيب لمتغيرات المكان والزمان، ولعل المدهش أنها ومن منظور علم الهندسة البيئية، يتضح أنها مبنية على قاعدة علمية من أسس علم "التصميم البيئي", وهو ما تؤكده دراسة علمية حديثة للدكتورة فاطمة حسين، من جامعة بني سويف في مصر. إذ تفيد بإن البناء بمادة الطين له مميزات وخصائص بيئية تحقق مفهوم الاستدامة البيئية.

بنيت مدينة شبام، وهي احدى مدن وادي حضرموت، على أنقاض مدينة شبام القديمة، وهي ترتفع بحوالي 700 متر عن مستوى سطح البحر. وتمتاز بالانخفاض بنسبة الرطوبة، وارتفاع درجة الحرارة بشكل ملحوظ، في ساعات الاشراق. وهي محاطة بسور من الطوب الطيني بارتفاع 5-9 متر، وله في الجهة الجنوبية مدخل وحيد للمدينة. وكانت شبام تحتل مساحة أكبر مما هي عليه الآن، وشكل ارتفاع المدينة عن الاراضي المحيطة بها من الانتشار والتوسع الافقي لها. وهي محاطة من 3 اتجاهات شمال وشرق وغرب، بأشجار النخيل وبساتين مما يعمل على التلطيف الجزئي لطقس المدينة.

وبحسب دراسة الدكتورة فاطمة حسين، المنشورة في مجلة "العمارة والفنون" في 2013، فإن الطين يعد مادة طبيعية، وصديقة للبيئة، وميزة البناء بالطين هو انه يساعد على الحد من استنزاف الموارد الطبيعية. والحد من انبعاثات الكربون، وذلك لاستخدامه الحد الأدنى من المواد المصنعة.

ووفقاً للدراسة، توفر مباني الطين في مدينة شبام حضرموت، تقنية عزل هندسي بشكل كامل على نحو فريد، فهي تعزل الحرارة أو البرودة مما يؤدي الى التقليل من إهدار الطاقة. ويتجسد ذلك التقدم الهندسي خاصة في بيئة المناطق الحارة والصحراوية. فالطين مادة لا تنفذ خلالها الحرارة الا بعد وقت يصل الى 15 ساعة تقريباً، في ظل سماكة 40 سم، بينما هذا الأمر لا يتعدى سوى 5 ساعات فقط في جدار الاسمنت الذي يكون بسماكة 20 سم5.

وما هو مهم أيضاً، أن مادة الطين تعتبر عازلة جداً للصوت وللضجيج، أو ما يسمى بيئياً بـ "التلوث الصوتي"، فمباني الطين هذه تؤدي هذه الوظيفة من خلال تكوينها وسماكة الجدران والمسامات المنتشرة في تكوين مواد البناء.

وبحسب الدراسة ذاتها، فإن من أبرز مزايا بيوت الطين هي الحد من التلوث وسهولة التدوير، فمادة الطين تعد مادة طبيعية متوازنة بيئياً، وهي توفر مناخاً صحياً للغاية داخل البيت، لدرجة يشعر بها السكان بالراحة التامة، والهدوء حتى أن نفحة الهواء والاوكسجين يكون صحياً للغاية عكس بيوت الاسمنت المطلية بالمعاجين الكيميائية.

كما أن عملية البناء بمادة الطين والقش، يحد من التلوث ومن إنتاج النفايات عند البناء، ويحد من استنزاف البيئة في جميع مراحل التصنيع، أو حتى في حال هدم المنزل فالعناصر الطينية تمتاز بسهولة تدويرها، ولا تضر بالبيئة الطبيعية المحيطة بالبيت كونها منتجة منها.

الخصائص الفيزوحرارية لطين مباني شبام

تشير احدى الدراسات العلمية الحديثة، الصادرة في العام 2017، والتي أعدها أستاذا الهندسة في جامعة حضرموت، مشعل شيبان، ومحمد السقاف، ونشرتها مجلة "الاندلس" للعلوم التطبيقية، إلى الخصائص الفيزوحرارية لمواد البناء الطينية المستخدمة في مباني مدينة شبام التاريخية، وأثرها على توفير مرافق الراحة في تلك المباني.

وتؤكد الدراسة أهمية استخدام مادة الطين ذات الصفات الفيزوحرارية الممتازة في بناء المباني، كونها تتناسب مع مناخ منطقة شبام حضرموت، فالأخيرة تتمتع بمناخ استوائي حار جاف، وطقس شديد التقلب في فترتي الصباح والمساء، ونصحت الدراسة بعدم استخدام المواد الحديثة في البناء كالخرسانة، لما لها من لها من سلبيات عند توفير الراحة.

وتفيد الدراسة بان توفير مرافق الراحة للإنسان يعد شرطاً ضرورياً ومهماً، وفي المناطق الحارة يمكن الحصول على الراحة من خلال استخدام اجهزة التكييف مما يتطلب وجود طاقة لا يستهان بها لتشغيل التكييف.

لكن الدراسة كشفت عن أنه في حالة المباني الطينية في شبام حضرموت، فإن مواصفات مادة الطين أصلاً تساعد على صياغة مرافق الراحة من غير استخدام انظمة التكييف، لما لهذه المادة من صفات حرارية خاصة تجعلنا نعتمد على مرافق الراحة الطبيعي، ولا نستخدم الطاقة لغرض التكييف إلا في الحالات الضرورية عند اشتداد الحر في حال تطلب الأمر لذلك.

الهندسة البيئية بين مباني شبام ودبي

بمجرد المقارنة مثلاً بين مدينتان لهما بيئة صحراوية متشابهة، وهما: مدينة شبام حضرموت، ومدينة دبي في الامارات كمثال، سنجد أنه بمقاييس العصر الحديث للهندسة والبيئة (وبعيداً عن العمر التاريخي)، ستكون المقارنة لصالح شبام حضرموت دون تجاوز. وإليكم السبب:

تتفوق مدينة شبام عن المدينة العصرية دبي (أو أية مدينة حديثة في الجزيرة العربية ذات البيئة الصحراوية)، في كون مبانيها صُممت ببراعة وفق "علم وخبرة" لتلائم المناخ والبيئة الصحراوية التي لا تؤثر عليها، ولا على صحة وراحة سكانها. في حين ان مدينة دبي شيدت مئات الابراج من ناطحات السحاب الزجاجية والاسمنتية وفق الاعتماد على الطاقة التي تشغل هذه الابراج، والتي تعد مكلفة اقتصادياً وملوثة للبيئة. فمواد الحديد والالمنيوم والزجاج والاسمنت الذي شيدت بها مباني دبي بمعايير عالمية للتكييف والتدفئة، ليست من مواد البيئة الطبيعية المتجانسة مع بيئة الصحراء. وهي مباني تعتمد اجمالا على الطاقة الكهربائية كي يصبح السكن فيه طبيعي.

ومع غياب الطاقة الكهربائية لمدة يوم واحد ستصبح كل هذه المباني في دبي عبارة عن أفران حارة لا يستطيع سكانها التنفس لحد الاختناق. كون درجة حرارة الصحراء عالية جداً ومع حرارة الطقس يصبح دخول الهواء وضوء الشمس إلى الابراج الزجاجية مصدر عبء اضافي يزيد من حرارة المباني ويخنق السكان. في حين ان بيوت شبام الطينية فهي مصممة من مواد طبيعية 100%، من قواعدها وجدرانها وسقوفها الداخلية وحتى نوافذها من الاخشاب الطبيعية، والتهوية فيها تهوية طبيعية ومريحة للغاية. ويكمن عامل التفوق في أن عوامل العزل الهندسي لمباني شبام حضرموت هي مواد طبيعية من ذات البيئة وهي طين وقش واخشاب ومادة النورة والرماد الطبيعي، ولعل جدار الطين المخلوط بالحشائش كالقش (التبن) يمكن أن يصد الموجات الكهرومغناطيسية ويمنعها من الدخول لداخل المباني. في حين ان عوامل العزل الهندسي المستخدمة في مباني دبي او غيرها هي مواد صناعية زجاج وحديد واسمنت وألمونيوم وطلاء ومواد كيماوية غير صحية.

كيف تم بناء بيوت شبام؟

لقد كشفت الدراسات الحديثة عن بعض أسرار قدرة المنازل الشبامية على البقاء سليمة لمئات السنين. حيث انه تم حفر أساسات عريضة لها يصل عمقها إلى متر أو مترين تحت الارض، ثم يتم بسط طبقة من روث الماشية في قاع الحفر ترش فوقها طبقة من الملح. ويلي ذلك رص أعواد من الشجر توضع من فوقها طبقة من الرماد. ولتسوية الأساس توضع قطع غير مصقولة من كسر الحجر.

وبعدها تبدأ عملية البناء بالحجر أو الطوب لرفع الأساس فوق سطح الأرض، بارتفاع 1 متر بغرض تدعيمه وحماية الجدران الخارجية للدور الأرضي من التآكل والتساقط. ويستخدم الرماد أو الطين لربط الحجارة ببعضها البعض، ويتم تلبيس الجزء الأعلى من الجدار بطبقتين من الطين المخلوط بالتبن والرمل.

وتأتي بعد ذلك عملية التجصيص بالنورة وهي مادة جيرية، أو الرماد، أما الأسقف فهي ترفع من أعواد خشب الأشجار، التي ترص بانتظام ثم تغطى بحصيرة من سعف النخيل توضع فيها طبقة من الطين. وبحسب الدراسات كانت تصل سماكة جدران الدور الأرضي للمنزل الشبامي إلى نحو 2 متر، ويتناقص هذا السُمك كلما اتجه البناء للأعلى وعادة كانت تطلى المنطقة العليا من المنزل بطبقة من الجير الأبيض، ويكتمل سحر هذه البيوت بزخارف ونقوش فريدة نقشت على أبوابها الخشبية العتيقة.

شبام في كتب التاريخ

تاريخياً، تمكنت مدينة شبام من الحفاظ على شكلها الحالي منذ القرن التاسع للهجرة، الموافق للقرن الخامس عشر الميلادي، وبناءاً على ذلك فإن عمر البنايات الموجودة حاليا بالمدينة يبلغ حوالي 600 سنة. وقد اتخذت المدينة هذا الشكل العمراني المتميز حتى تكون حصنا متينا ضد الأعداء وبهدف المحافظة على الأراضي المزروعة المحيطة بها ومنع تدهورها أو تصحرها.

وفي العام 2007، نالت بلدة شبام على جائزة "آغا خان للآثار القديمة"، وفي يوم 2 يوليو من العام 2015 أضافت منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم "اليونيسكو" مدينة شبام بالإضافة إلي مدينة صنعاء القديمة، على قائمة مواقع التراث العالمي المعرضة للخطر.

ووفقاً للدراسة الي نشرتها مجلة "السياحة العربية"، تعود تسمية شبام إلى ملكها، وهو شبام بن الحارث بن حضرموت بن سبأ الأصغر. وقد عرفت شبام بعدة أسماء منها "بيحم" العالية، وبلدة حضرموت، وأم الجهة، والصفراء، والزرافة، والدمنة، وأم القصور العوالي، وناطحات السحاب، والوالدة.

وقد وصف الرحالة الهولندي "فان دير مولين" مدينة شبام حضرموت بأنها "تشبه الكعكة عندما يرش عليها السكر وذلك لبياض سطوحها". ووصفها الرحالة الألماني "هانس هافرتين" بأنها "شيكاغو الصحراء العربية"، وذلك نظرا لموقعها المتميز وسط الصحراء.

وقد ذكرها الهمداني في كتابه "صفة جزيرة العرب"، وكذلك ذكرها كلا من ياقوت الحموي، والقزويني. وتعتبر مدينة شبام أحد التحف التاريخية الرائعة محليا وعالميا وذلك لما تتميز به من حضارة تاريخية عريقة اكتسبتها على مر العصور القديمة قبل ظهور الإسلام.

* المراجع والمصادر:

- فاطمة حسين، "تكاملية البناء بالطين في والمعالجات التصميمية للفراغات الداخلية للمبنى"، مجلة العمارة والفنون، جامعة بني سويف، جمهورية مصر العربية، مايو، 2018.

- م. طارق بدراوى، "مدينة شبام اليمنية "، مجلة السياحة العربية، مصر، مايو، 2019.

- مشعل شيبان، ومحمد السقاف، " الخصائص الفيزوحرارية لمواد البناء الطينية المستخدمة في مباني مدينة شبام التاريخية، وأثرها على توفير مرافق الراحة في تلك المباني"، مجلة الاندلس، جامعة الاندلس للعوم التطبيقية، صنعاء. ديسمبر 2017.

المصدر: حلم اخضر :