اليمن.. أزمة النظام والهوية والدولة

تعتبر اليمن واحدة من أكثر الدول العربية عرضة للأزمات السياسية والاقتصادية المختلفة التي تتعدد مظاهرها وتأثيراتها والأطراف الفاعلة فيها، وبعض هذه الأزمات تؤثر على العلاقة بين اليمن وبعض الدول الأخرى، فضلاً عن تأثير التدخل الأجنبي في اليمن، والذي يزيد من تعقيد الأوضاع، ويؤثر بشكل مباشر في مختلف مراحل النضال الوطني بشكل يقوض آمال الشعب وطموحاته في الاستقرار السياسي والرفاه المعيشي.


وتشكل أزمة النظام والهوية والدولة النواة الرئيسية لمختلف الأزمات التي يعاني منها الشعب اليمني، وهي أزمات مزمنة تحتاج إلى جهود جبارة ومصالحة وطنية شاملة وتحييد حقيقي للتأثير الأجنبي حتى يتم تجاوزها وحل مختلف الإشكاليات المتعلقة بها، وما الأزمة التي تعاني منها البلاد اليوم إلا انعكاس للأزمات المذكورة، وهي في الأساس صناعة يمنية خالصة زاد من تعميق بعضها تأثير التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية لليمن. 

- أزمة النظام
شكلت أزمة النظام السياسي في اليمن أبرزت المعوقات التي حالت دون بناء الدولة، وتسببت هذه الأزمة في تنوع الأزمات المرتبطة بالصراع السياسي والذي انحرف في محطات كثيرة إلى صراع عسكري عنيف بسبب الخلافات المتعلقة بالسلطة والتحكم بثروات الشعب وإساءة استغلالها من خلال احتكارها وإنفاق جزء كبير منها بشكل عبثي يذهب لصالح النظام الحاكم وعلاقاته الزبائنية الداعمة لاستمرار حكمه وتسلطه واستبداده.


والمعروف تاريخياً عن اليمن، كغيره من الدول العربية، وحتى بعض الإمبراطوريات القديمة، أن نظام الحكم اتخذ طابعاً قبلياً وعائلياً بحتاً، وظهرت الكثير من الدويلات التي تحمل اسم العائلات التي أسستها أو تحكمها أو ورثت حكم دويلات بعد انهيار العائلات الحاكمة فيها سواء بسبب الحرب بين أجنحة العائلة الحاكمة أو مع عائلات أو قبائل حاكمة أخرى من أجل السيطرة على السلطة والثروة.


النزعة العائلية في منظومة الحكم في اليمن ظلت قائمة حتى في العصر الإسلامي والعصور التي تليه (عهد الخلفاء الراشدين ثم الخلافة الأموية والعباسية فالعثمانية)، ثم ظهر نظام حكم قائم على العصبية العائلية والمذهبية والعنصرية ممثلاً بالأئمة الزيديين الذين قدموا إلى اليمن من بلاد نجد والحجاز، وانفردوا بحكم مناطق واسعة من اليمن لفترة امتدت نحو 1100 عام انتهت بقيام ثورة 26 سبتمبر 1962 التي أطاحت بنظام الحكم الإمامي الملكي المستبد للأئمة الزيديين.


تفاءل اليمنيون كثيراً بالثورة التي أتت بالنظام الجمهوري، إلا أن هذا التفاؤل سرعان ما تبخر بعد أن نشبت الصراعات بين الجمهوريين أنفسهم، الذين فشلوا في التوافق على صيغة محددة لملامح النظام الجمهوري الوليد، وظلت النزعات العائلية والقبلية والمناطقية هي المسيطرة على تفكير السياسيين وصراعاتهم البينية على السلطة، وتم تغليف هذه الصراعات بخلافات أيديولوجية حتى لا ينكشف زيف المتصارعين على السلطة ومدى صدق اقتناعهم بالنظام الجمهوري الديمقراطي التعددي، حتى جاء عهد علي عبدالله صالح، والذي شهد فيه النظام الجمهوري الديمقراطي التعددي أسوأ انتكاساته منذ ثورة 26 سبتمبر 1962، حيث ظل علي صالح يمدد لنفسه بطرق مفضوحة من خلال التعديلات الدستورية المتعلقة بمدة الفترات الرئاسية، ثم توج تلك التعديلات بمحاولة توريث السلطة لنجله الأكبر أحمد، وكان ذلك أحد وأهم الأسباب التي أشعلت الثورة الشعبية السلمية عام 2011 ضد نظام علي صالح وعائلته. 


ثم إن الثورة المضادة لثورة الشعب السلمية تسببت في ما وصلت إليه البلاد من حروب أهلية وتدخل أجنبي ودمار شمل كافة مناحي الحياة. ويرتبط الصراع الدائر حالياً ارتباطاً وثيقاً بأزمة النظام السياسي المتجذرة في تاريخ نظام الحكم في اليمن، ويأتي هذا الصراع بسبب اعتراض منظومة الحكم الفاسدة على طموحات الشعب في قيام نظام حكم جمهوري ديمقراطي تعددي وتصادم ذلك مع محاولات البعض إعادة نظام الحكم الإمامي الطائفي أو العائلي القبلي.

- أزمة الهوية
تلازمت أزمة هوية الدولة مع أزمة النظام السياسي في اليمن لفترات زمنية طويلة، وأسهمت كل أزمة في تعميق الأزمة الأخرى، ففي بعض الفترات شهدت البلاد تنافراً بين هوية النظام السياسي وهوية القطاع الأوسع من سكان البلاد، هذا التنافر وما نجم عنه من صراعات داخلية أثر بشكل بشع على هوية الدولة وهوية نظام الحكم، حيث غابت الهوية الوطنية الجامعة وحلت مكانها الهويات الفرعية ما دون الوطنية المستندة إلى معايير قبلية ومناطقية ومذهبية، فظهرت على إثر ذلك النزاعات التي اتخذت طابعاً مناطقياً ومذهبياً وقبلياً في الصراع على السلطة والثروة وحتى المكانة الاجتماعية.


ظلت الهويات الفرعية ما دون الوطنية هي المحرك الأساسي للنزاعات الداخلية خلال مختلف الحقب التاريخية الحديثة والمعاصرة حتى في أزهى فترات المد القومي والشيوعي في المنطقة العربية، وخاصة في اليمن، واتسمت الصراعات التي نشبت حتى بين أجنحة بعض الأحزاب القومية والشيوعية الحاكمة بالاستناد إلى الهويات الفرعية لقيادات وأعضاء هذه الأحزاب، وهذا الأمر يعكس فشلها في تجاوز الموروثات المتخلفة التي عانت منها الأمة العربية قروناً طويلة وكانت سبباً في جمودها وعدم قدرتها على اللحاق بركب الحضارة الحديثة.


وإذا كانت اليمن تتميز بعدم تعدد الأعراق والإثنيات فيها، كما هو حال بعض البلدان العربية مثل العراق والسودان، إلا أنها تعتبر من أكثر الدول العربية تأثراً بمخلفات عهود التخلف والاحتلال التي رسخت الانقسامات على أسس مناطقية ومذهبية، فغابت في خضم هذا الصراع الهوية الوطنية الجامعة، زد على ذلك، أنه ظهرت هويات فرعية متعددة، بالإضافة إلى الهويات التي رسختها عهود التخلف والاحتلال ممثلة بموروثات نظام الحكم الإمامي المتخلف في شمال البلاد والاحتلال البريطاني في جنوبها، وظلت الهوية الوطنية الجامعة غائبة عن التأثير في المشهد السياسي حتى الوقت الحالي.


كما أن الصراع حول هوية الدولة في اليمن تأثر في كثير من الأحيان بذات الصراعات التي شهدتها الكثير من البلدان العربية، وخاصة في منتصف القرن العشرين، حيث شهدت تلك الفترة صعود المد القومي العربي الذي تزامن مع ثورات التحرر العربية ضد الاحتلال الأجنبي، كما شهدت تلك الفترة ولادة الحركات الإسلامية السياسية وتنامي دورها في الحياة العامة، بالإضافة إلى انتشار الأحزاب الشيوعية في بعض البلدان العربية.


اتخذت الصراعات السياسية ذات الطبيعة الأيديولوجية اتجاهات شتى، فهناك صراعات بين الأحزاب القومية والشيوعية والحركات الإسلامية، وهناك صراعات بينية داخل كل تيار، ذلك أن كل تيار من تلك التيارات يوجد فيه عدد من الأجنحة استناداً إلى انتماءات طائفية أو قبلية أو مناطقية، وبعض التيارات يوجد فيها أجنحة متشددة وأخرى معتدلة، ومثلت الصراعات التي شهدتها تلك الفترة في جانب منها انعكاساً للصراعات التي كانت قائمة بين المعسكرين الشرقي الاشتراكي والغربي الرأسمالي، ولعب التدخل الأجنبي، وخاصة بعد ظهور القضية الفلسطينية، في تذكية الصراعات الأيديولوجية التي شهدتها الكثير من دول المنطقة وارتكز تأثيرها حول هوية الدولة: هل تكون شيوعية أم قومية أم إسلامية؟!


وخلال تلك الفترة، شهدت اليمن صراعات كثيرة حول هوية الدولة، ففي الشمال، قام نظام حكم جمهوري محافظ مقابل قيام نظام حكم شيوعي متطرف في الجنوب، وبما أن المد القومي العربي الذي تأثرت به اليمن في تلك الفترة شكل دافعاً لشطري اليمن لإعادة تحقيق الوحدة الوطنية، إلا أن الخلافات حول هوية الدولة الجديدة (شيوعية أم محافظة رأسمالية) حال دون تحقيق الوحدة لسنوات طويلة، قبل أن يتم الإعلان عن تحقيقها فجأة عام 1990 نتيجة لعدة عوامل محلية ودولية ليس هنا مجال ذكرها.


الخلاف حول هوية الدولة قبل عام 1990 رافقه خلافات داخل كل شطر على حدة حول هوية الدولة الشطرية أو نظامها السياسي، ففي الشمال ظهرت الخلافات حول هوية الدولة فور قيام ثورة 26 سبتمبر 1962، فهناك من يريدها إسلامية، وهناك من يريدها قومية علمانية، وهناك من يريدها شيوعية. وفي الجنوب، ظهرت خلافات بين قطبي الجبهة القومية (التيار المحافظ والتيار الشيوعي المتطرف)، وانتهى الصراع بسيطرة التيار الشيوعي المتطرف على السلطة، ثم ظهرت خلافات اتخذت طابعاً قبلياً ومناطقياً على السلطة، أسفرت عن اغتيال بعض رؤساء الشطرين والانقلاب على البعض الآخر. 


وبعد الإعلان عن إعادة تحقيق الوحدة، ظهرت الخلافات مجدداً حول هوية الدولة الجديدة، ثم ظهرت نفس الخلافات بعد اندلاع الثورة الشعبية السلمية عام 2011، وهي خلافات تأتي بسبب تعدد التيارات ذات الطبيعة الأيديولوجية، وخاصة التيارات الإسلامية والعلمانية، فكل منها يريد أن تكون هوية الدولة وفقاً لرؤيته، ويبدو أن هذه الصراعات ستظهر بين الفينة والأخرى، مادام أن أطرافها مازالت فاعلة في المشهد السياسي، يأتي ذلك رغم أن هناك من يريد أن تكون الدولة بلا هوية واضحة حتى يسهل حكمها بواسطة عائلة أو قبيلة أو مذهب محدد.


ولعل أخطر ما في الصراع حول هوية الدولة أنه أسهم في غياب الهوية الوطنية الجامعة، وساعد على ظهور الهويات الفرعية مادون الوطنية، فالهويات المتصارعة حول طبيعة نظام الحكم تتخذ طابعاً نخبوياً، فيما الهويات الفرعية تتخذ طابعاً قبلياً وعائلياً ومناطقياً بحتاً، وهنا تتعقد المشكلة وتتشابك خيوطها حتى تصبح عصية على الحل، وامتدت هذه الانقسامات إلى المؤسسة العسكرية ذاتها، والتي يفترض أن تكون بعيدة عن الصراعات الداخلية، إلا أن تشكيلها وفقاً لأسس غير وطنية فالنتيجة واضحة.

- أزمة الدولة
مفهوم الدولة من أكثر المفاهيم الغائبة في أوساط المجتمع اليمني، ويعود ذلك إلى الغياب الكبير للدور الذي يجب أن تلعبه الدولة في الحياة العامة، سواء من خلال توفير الخدمات العامة والتوزيع العادل للثروة والوظيفة العامة، أو في الفصل بين الخصومات التي تحدث بين المواطن أو بين بعض القبائل والعائلات بشكل سريع وعادل.


وشكلت ظواهر سلبية، مثل الرشوة والوساطة والمحسوبية، من أكثر الظواهر التي أثرت على سمعة الدولة، كما أن عجز الدولة عن بسط سيطرتها على كامل تراب الوطن جعل المواطنين يشعرون بالاغتراب، ما أدى إلى لجوئهم إلى قبائلهم سواء للبحث عن الحماية والأمن أو حل المشاكل والخصومات الشخصية، وجراء ذلك، شهدت مناطق واسعة من البلاد تنامي دور شيخ القبيلة على حساب الدور الذي يفترض أن تقوم به الدولة، والأبشع أن الدولة ذاتها شجعت مثل هذا الأمر، ومثل هذه الظواهر ساعدت على تنامي الهويات الفرعية ما دون الوطنية على هوية حساب الهوية الوطنية الجامعة.


أزمة الدولة ظهرت كانعكاس للرغبة في التسلط والقمع من قبل الحاكم الفرد الذي يسعى إلى البقاء في السلطة طيلة حياته ثم توريث السلطة لعائلته، فبعد أن تمكن على عبدالله صالح من تسلم السلطة عمد إلى تعيين أبناء قبيلته (حاشد) في مختلف المناصب الأمنية والعسكرية والإدارية في مختلف المحافظات، وشملت التعيينات حتى مدراء أقسام الشرطة في المناطق النائية والطرفية، وكأن بقية أبناء البلاد لا يصلحون لإدارة مثل هذه المناصب، وكان غالبية -إن لم يكن كل- مدراء أقسام الشرطة وحتى الإدارات الأمنية لا يجيدون القراءة والكتابة، بل فإن علي عبدالله صالح نفسه صعد إلى السلطة وهو لا يجيد القراءة والكتابة، ثم جيء له بمدرسين من لبنان لتعليمه القراءة والكتابة وغير ذلك بعد أن أصبح رئيساً للبلاد.


ومؤخراً، استلهم الحوثيون طريقة علي عبدالله صالح في إدارة البلاد، وخاصة في السنوات الأولى لتسلمه السلطة، فبعد أن تمكن الحوثيون من السيطرة على بعض المحافظات، قاموا بتعيين أتباعهم الذين ينتمون إلى محافظات محدودة في مختلف المناصب العسكرية والمدنية رغم أنهم بلا مؤهلات دراسية، ومن تبقى منهم قاموا بتوزيعهم على النقاط الأمنية، واستحدثوا نقاطاً جديدة حتى في القرى النائية وذلك حتى يتمكنوا من إحكام السيطرة على البلاد أمنياً وعسكرياً وبالتالي السيطرة الكاملة على السلطة والثروة دون تقديم أي خدمات للمواطنين، وينظرون للدولة على أنها وسيلة للجباية ونهب الأموال بشكل مفضوح، وأمرٍ كهذا من شأنه أن يحدث سخطاً متراكماً حتى يحدث الانفجار الكبير -أو الثورة- ضد الظلم والفساد والاستبداد والديكتاتورية.