الدين في مواجهة الوطن
يحدث أن يقف الدين ـ أو توقفه جماعات «الدين السياسي» ـ في مواجهة مع الوطن، وفقاً لرؤية ترى الدين آيديولوجيا عابرة للحدود الوطنية، وتحصر الوطن داخل حدوده الجغرافية. وعلى الرغم من أن المفهومين يتسعان للجميع إلا أنهما يمكن أن يتواجها عندما يتم وضع الدين ضمن أطر سياسية ترى في الانتماء الوطني نقيضاً للتوجهات الإنسانية للدين، ضمن سياقات آيديولوجية وسياسية تهيئ لصراع المفهومين الذي يمكن أن ينفجر في الشارع بغية السيطرة عليه، كما حدث ـ قبل يومين ـ خلال احتفالات اليمنيين بالذكرى الحادية والستين لثورة 26 سبتمبر ضد نظام حكم الأئمة في اليمن، والتي صادفت ذكرى «المولد النبوي» في 12 ربيع الأول، حيث اندفعت الجماهير بعفوية للاحتفال بذكرى سبتمبر، فيما حاول الحوثي منع تحول الاحتفال إلى حراك شعبي، وزج بعناصر ميليشياته لتخريب الاحتفال بذكرى «انقلاب سبتمبر» بحجة أن الأولى الاحتفاء بـ«مولد النبي».
والحقيقة أن الحوثي حول الاحتفال بمولد النبي الكريم عليه الصلاة والسلام إلى مناسبة للدعاية السياسية لمشروعه، أعاد من خلالها الاحتفاء بمولد النبي باعتباره «جداً لسلالة» لا «نبياً برسالة» وأعاد إنتاج شخصية «محمد النبي» في صورة «محمد الجد» ثم طلب من اليمنيين الاحتفاء، لا بمولد الشخصية المحمدية الدينية، ولكن بمولد الشخصية المحمدية الجينية، الأمر الذي ولد ضرباً من الاحتكاك بين من يرون أن اليمن جدهم، ومن يرون أن قريشاً قبيلتهم، في مجتمع لا تزال الانتماءات القبلية والعصبوية تؤثر فيه بشكل جلي.
وفي سياق ترميزه للأشياء والمفاهيم والألوان بما يخدم مشروعه الطائفي حاول الحوثي ـ أسوة بميليشيات إيران ونظامها ـ أن يعبئ «اللون النبوي الأخضر» بدلالات آيديولوجية طائفية، وصدَّر هذا اللون للمجتمع على اعتبار أنه المعيار الذي يميز بين معسكرين: معسكر «أهل البيت الطيبين الطاهرين» المنضوين تحت راية «محور المقاومة» من جهة، ومعسكر «الوهابيين والنواصب التكفيريين» المنضوين تحت راية «العملاء المنبطحين» من جهة أخرى، ثم انطلق يلزم اليمنيين في مناطق سيطرته بتعليق الألوان الخضراء على واجهات المحلات والشوارع العامة، وتحولت مباني صنعاء التاريخية إلى اللون الأخضر الذي لم يعد لوناً محايداً، بل إشارة سيميائية مشحونة بالدلالات السياسية التي يريد الحوثي تكريسها.
وفي مناسبة احتفال اليمنيين بـ«ذكرى ثورتهم» واحتفال الحوثيين بـ«ميلاد جدهم» شهدت شوارع العاصمة اليمنية صنعاء ما يمكن أن يسمى «صراع الألوان» حيث تواجه لونان ومناسبتان وتاريخان، ونزل «السبتمبريون» للشوارع، حاملين علم الجمهورية بألوانه الثلاثة: «الأحمر والأبيض والأسود» فلما رآهم الحوثيون هاجموهم، حامين الرايات «النبوية» الخضراء، مرددين «الصرخة الخمينية» المعروفة التي ردَّ عليها السبتمبريون بهتافات مضادة: «جمهوري، جمهورية» في حركة رمزية موجهة ضد الحوثيين الذين يُنظر لهم في اليمن على أساس أنهم امتداد لنظام الأئمة المذهبي الذي ساد قبل ثورة سبتمبر التي حولت اليمن إلى النظام الجمهوري.
وهنا حصلت المواجهات بين اللون الأخضر من جهة وألوان العلم اليمني من جهة أخرى، وهي المواجهات التي على الرغم من عرضيتها إلا أنها كانت نتيجة لسنوات من تسييس الحوثي لمناسبة المولد النبوي وغيره من المناسبات الدينية، كما أنها تشير إلى خطورة إعادة إنتاج «الشخصية النبوية الدينية» على هيئة «شخصية قبلية جينية» لأنه في تلك اللحظة سيلجأ الناس إلى أجدادهم الجينيين، وستحضر الألوان المختلفة، وسيقف من يرى أنه يدافع عن النبي الكريم ومولده في وجه من يحتفل بأعياد الثورة المجيدة التي خلصت اليمنيين من نظام كهنوتي كان يميز بين اليمنيين على أسس جينية وعرقية.
ومع احتدام المعركة في الشارع بالعصي والحجارة بين عناصر الميليشيات الحوثية والمحتفلين بذكرى ثورة سبتمبر ظهرت عزلة الميليشيات الحوثية التي أنتجت سياساتها مواجهة مقيتة بين الديني والوطني، وذلك بتكريسها للشعارات المتلبسة بالدين، لتواجه شعارات الجماهير التي تهتف للوطن والجمهورية، وكانت النتيجة أن اندفع جمهور العلم اليمني بألوانه الثلاثة ليلاحق عناصر الحوثيين بلونهم الأخضر الذي يشير ظاهرياً إلى المولد النبوي، ويحيل إشارياً إلى محتوى آيديولوجي، يحاول من خلاله الحوثي فرض لون واحد وخطاب واحد ومذهب واحد وجماعة واحدة، واختصار جميع الألوان والخطابات والمذاهب والجماعات في صبغة واحدة يريد من خلالها إعادة صياغة «الهوية اليمنية» بما يتناسب مع مصطلحه الذي جلبه من سياق ثقافي إيراني، وهو مصطلح «الهوية الإيمانية» التي هي في حقيقتها هوية طائفية، وإن حاول الحوثيون صبغها بطابع إيماني ديني، الأمر الذي يكرس المواجهات بين الديني والوطني، بسبب تصرفات سلطة تحاول أن تعيد إنتاج الدين بوصفه «شركة خاصة» تعرض فيها منتوجات رديئة ومنتهية الصلاحية، في علب بملصقات مغرية من مثل: «أهل البيت» و«المولد النبوي» و«الهوية الإيمانية» وغيرها من ملصقات تستعمل لخداع المستهلك الذي لا يعلم أنه يشتري علباً فاسدة المحتوى، وضعت عليها لواصق مغرية، وتم التسويق لها بشكل جيد.
وقد رأينا أمثلة لما فعله الحوثيون في اليمن من تنميط وتصنيف يؤديان للمواجهة بين الديني والوطني، رأينا تلك الأمثلة في بلدان أخرى تنشط فيها ميليشيات إيران المؤدلجة، حيث ينزل الجمهور عندما تتاح له الفرصة للشارع، في العراق ولبنان، حاملاً علم بلاده، فيما تحضر عناصر الميليشيات الإيرانية براياتها الطائفية، لتحدث المواجهات بين الألوان بإيحاءاتها ومضامينها السياسية، إذ ينحاز الجمهور لألوان العلم الوطني الجامع، فيما تلتف عناصر الميليشيات حول راياتها الخضراء والسوداء التي تحيل على سياقات ومضامين وآيديولوجيا طائفية إيرانية لم تعد تخفي أهدافها في الهيمنة على شعوب المنطقة، مستخدمة كافة الطرق والوسائل، للوصول إلى تلك الأهداف.
وبنظرة عاجلة إلى ما جرى من مواجهات في شوارع صنعاء بين عناصر ميليشيات الحوثي ذات اللون الأخضر والجمهور المحتفل بذكرى ثورة الجمهورية بألوان علمها، بنظرة عاجلة إلى ذلك المشهد تظهر لنا خطورة وضع الدين في مواجهة مع الوطن، وكارثية اصطناع خلاف بين الديني والوطني، أو بين الهوية الدينية والهوية الوطنية، ضمن سياق التفريق بين «الهوية الإيمانية» والهوية اليمنية» حيث لم يعهد اليمنيون تلك التنميطات على امتداد تاريخهم، قبل سيطرة الحوثيين الذين يمارسون لعبة خطيرة نتج عنها مواجهة بين الدين والوطن، أو بين يوم 12 ربيع الأول ويوم 26 سبتمبر، أو بين ذكرى مولد النبي الذي يحتفل به الحوثيون جدّاً جينياً لهم، وذكرى ثورة سبتمبر التي يحتفل بها اليمنيون رمزاً لحريتهم وانعتاقهم من نظام كان يميز اليمنيين إلى «سادة» من «أهل البيت الطاهرين» وخدم جُلُّ ما لديهم من شرف هو أن يكونوا في خدمة أولئك «الطيبين الطاهرين» الذين ينحصر كل همهم في السلطة والثروة، لا في النبي وآله.
*نقلاً عن القدس العربي