الحوثيون ومواجهة تداعيات توقف الحرب في اليمن
مع نهاية 2018 وقعت الحكومة اليمنية والحوثيون على ما سمي حينها اتفاق استوكهولم الذي تم بإشراف الأمم المتحدة. بنود كثيرة وردت في الاتفاق، غير أن ما يهمنا هنا هو ذلك البند المتعلق بصرف مرتبات الموظفين الذين وافق الحوثيون على صرف مرتبات من هم في مناطق سيطرتهم ـ حسب نصوص الاتفاق ـ من إيرادات ميناء الحديدة الذي يسيطرون عليه.
ومع مرور السنوات، ومع منع الدول الكبرى ـ حينها ـ دخول القوات المناوئة للحوثيين المدينة وميناءها، تحت مبرر الخشية من تفاقم الأوضاع الإنسانية، بدأ منذ ذلك الحين ميلان الكفة الميدانية لصالح الحوثيين المدعومين من إيران، ضد القوات اليمنية المدعومة حينها من التحالف العربي.
تفاصيل كثيرة هنا لا تعنينا في هذا المقال، والمهم أن الأمور ـ بعد سنوات من التحولات الميدانية والمتغيرات الدولية والإقليمية ـ انتهت إلى أن توافق الحكومة اليمنية قبل شهور على صرف مرتبات موظفي الجمهورية كافة من إيراداتها النفطية والغازية، في تجاوز لما تم الاتفاق عليه في استوكهولم.
ومع كل تلك التنازلات من الجانب الحكومي، لتلبية متطلبات المعيشة لموظفي الدولة الذين لم يتسلموا مرتباتهم منذ ثماني سنوات وضع الحوثيون شروطاً جديدة، استناداً إلى تحسن وضعهم الميداني، وهذه الشروط تمثلت في أن تسلم مرتبات الموظفين في مناطق سيطرتهم من الإيرادات الحكومية، وإلى أيديهم هم، وليس حسب الآلية التي كانت قبل توقف المرتبات، حيث كانت الحكومة ترسل مرتبات هؤلاء الموظفين عبر أحد البنوك الأهلية. اشترط الحوثيون ـ كذلك ـ أن تسلم المرتبات حسب كشوفات جديدة أدخلوا فيها أسماء عناصر ميليشياتهم التي تقاتل القوات الحكومية، وهو ما يعني أن تدفع الحكومة مرتبات عناصر الميليشيات التي تقاتل ضدها، ضمن اشتراطات استغربها الكثير من الوسطاء، ونددت بها القوى الدولية، وحملت الأمم المتحدة الحوثيين ـ ضمنياً ـ مسؤولية تعطل مفاوضات تطبيع الأوضاع الإنسانية.
الحوثيون بالطبع، خرجوا بخطاب داخلي يقولون إن التحالف والحكومة رفضوا تسليم مرتبات الموظفين، لأن السعودية تريد «سرقة ثروات الشعب اليمني» دون أن يفهم كثير من الناس أن سبب انهيار المحادثات كان إصرار الحوثيين على إدخال عناصر ميليشياتهم، لتكون ضمن كشوفات الموظفين، وذلك برفضهم الصرف، وفقاً لكشوفات الموظفين الرسمية عام 2014، قبل اندلاع المواجهات العسكرية.
مع الزمن اتضحت للناس الحقيقة، ولم يعد لدى الحوثيين القدرة على كتمانها، خاصة بعد التنديد الدولي بتعنتهم، وبدأ أعضاء مجلس النواب في صنعاء، وناشطون على وسائل التواصل، وصناع محتوى يتحدثون عن ضرورة صرف الحوثيين للمرتبات.
بدأ الصوت في مناطق سيطرة الحوثيين يرتفع، خاصة وأن الحرب قد توقفت، وهي التي كان الحوثيون يتعللون بها للاستحواذ على عائدات وموارد البلاد في مناطق سيطرتهم، على اعتبار أنهم في معركة، وأن دعم المجهود الحربي مقدم على المرتبات والخدمات، وهو الأمر الذي جعل الناس يصبرون، وهو كذلك الأمر الذي جعله الحوثيون ذريعة لتكميم أفواه الجياع عن المطالبة بمستحقاتهم في مناطق سيطرة الميليشيات.
غير أن الهدنة غير المعلنة التي كان للتوافق السعودي الإيراني برعاية صينية دور حاسم في استمرارها، هذه الهدنة مثلما كانت فرصة للحوثي لإعادة ترتيب صفوفه، وتهريب المزيد من الأسلحة الإيرانية، إلا أنها شكلت في الوقت ذاته معضلة للحوثيين الذين أُبطلت بتوقف الحرب ذريعتهم في فرض الجبايات والسيطرة على الإيرادات، واستمرار التملص من القيام بالخدمات وصرف المرتبات.
وكما شكلت الهدنة غير المعلنة فرصة للحوثيين فإنها شكلت محنة لهم، ليس من باب أن الناس في مناطق سيطرتهم يتساءلون اليوم عن جدوى الحرب التي خاضها الحوثيون باسم «تحرير مكة والمدينة والقدس ومواجهة قوى الاستكبار العالمي» ولا من باب التساؤل حول مئات آلاف القتلى وملايين النازحين الذين تشردوا بسبب مغامرات الحوثيين وجشعهم ونزوعهم للسلطة التي جعلوها أصلاً من أصول الدين، ولا من باب جدوى الدمار الهائل الذي تعرضت له البلاد بسبب الحرب، حيث لم يتحقق أي من الشعارات المخاتلة التي رفعها الحوثيون كأهداف للحرب، بل على العكس، أفاق اليمنيون على بلادهم مقسمة، ضعيفة، منقوصة السيادة، بوضعها تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ومفتوحة لأنواع التدخلات دولياً وإقليمياً.
المعضلة الأهم التي يواجهها الحوثيون اليوم تتمثل في المطالب المتزايدة داخل مناطق سيطرتهم بضرورة صرف المرتبات، حيث بدأ المعلمون في العاصمة صنعاء إضراباً مفتوحاً للمطالبة بصرف المرتبات، مشيرين إلى مسؤولية الحوثيين عن صرف هذه المرتبات، بما أنهم هم من يسيطرون على العاصمة وأغلب مناطق شمال البلاد.
استعمل الحوثيون أساليب مختلفة من الترهيب والترغيب لإفشال الإضراب الذي تتجاوب أصداؤه، مع تأييد قطاعات واسعة من اليمنيين له، كحراك مطلبي حقوقي، بعيداً عن أية اعتبارات سياسية، والأكثر من ذلك أن صراعات قيادات الجماعة على الموارد قد ظهرت للسطح، كما هو الحال بين جناح أحمد حامد مدير مكتب رئيس المجلس السياسي الأعلى التابع للحوثيين ومحمد علي الحوثي قائد ما كان يسمى باللجنة الثورية العليا، الذي لا يوجد له منصب واضح حالياً، رغم أنه يتحكم بموارد مادية وبشرية كبيرة، إضافة إلى بروز طبقة رجال أعمال مرتبطين بالجماعة وقياداتها، وطغيان مظاهر البذخ في الإنفاق، وكذا توسع قيادات الجماعة في الاستثمارات في السوق العقارية، ناهيك عن تغول قيادات حوثية في أسواق المحروقات والصرافة والمضاربة بالعملات، الأمر الذي راكم حالات الاحتقان في الشارع العام ضد الجماعة، مع اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء بشكل واضح.
وعلى وقع هذه التطورات خرج عبدالملك الحوثي زعيم الجماعة بخطاب متشنج، قبل أيام يتوعد فيه المطالبين بحقوقهم، ويتحدث عن «مؤامرة» يقودها الأعداء تحت مبرر صرف المرتبات، ويهدد بالعودة إلى الحرب التي ربما يعتبرها مخرجاً له من تزايد الضغوط الشعبية في مناطق سيطرته، رغم الصعوبات الكبيرة التي قد تعترض خطوة كهذه، وفي مقدمتها ما ذكرناه آنفاً من توافق سعودي إيراني على التهدئة في الإقليم.
ومع كل ذلك تبقى كل الاحتمالات واردة، لأننا إزاء جماعة تسعى هي ـ وتسعى طهران لها ـ أن تحصل في اليمن على وضع أشبه بوضع حزب الله في لبنان، وهو الوضع الذي تستحوذ فيه الجماعة على السلطات والموارد، فيما تتحمل الحكومة المسؤوليات والخدمات، وهذا هو الوضع النموذجي الذي تسعى طهران من خلاله إلى ألا تشكل ميليشياتها في المنطقة أية أعباء مالية عليها، خاصة مع تشديد العقوبات الغربية على البلاد. وتحقيق هذا الهدف الإيراني لن يكون إلا بأن تكون لميليشياتها مواردها الخاصة التي تكفيها في بعض البلدان كاليمن، والتي تكفيها وتفيض على طهران كذلك كما في بلدان أخرى مثل العراق.
وبين الاحتمالات المتعددة يبقى الوقت عاملاً حاسماً في ترجيح أي منها، فيما يخص مآلات الأوضاع في اليمن الذي يعاني من ويلات الحرب والفوضى منذ 2011 وإلى اليوم.