أمريكا...حليفاً
جن جنون عدد من دوائر صنع القرار في واشنطن، بعد أن أقدمت منظمة «أوبك بلس» على تخفيض إنتاج النفط بواقع مليوني برميل نفط يومياً، وعلى الرغم من أن دول إنتاج نفطي كثيرة تنضوي تحت مظلة المنظمة إلا أن السعودية نالت نصيب الأسد من الانتقادات والهجمات، حيث اُتُهِمت الرياض في واشنطن بـ«تسييس النفط»، و«الاصطفاف إلى جانب روسيا» في الحرب الروسية الأوكرانية.
وتوالت تصريحات من مستويات مختلفة تراوحت بين المطالبة بعقوبات ووقف بيع الأسلحة وغيرها، وهدد البيت الأبيض بإعادة النظر في شكل العلاقة بين الرياض وواشنطن، وقال إنه سوف يتشاور مع الكونغرس في كيفية التعاطي مع تلك المستجدات بما يضمن تحقيق المصالح القومية الأمريكية.
جون كيربي منسق الاتصالات الاستراتيجية لمجلس الأمن القومي قال في حديث للصحافيين «يعتقد الرئيس أنه يجب علينا مراجعة العلاقات الثنائية مع السعودية، لمعرفة ما إذا كانت هذه العلاقة في المكان الذي يجب أن تكون فيه، وأنها تخدم مصالح أمننا القومي».
أما السناتور الديمقراطي بوب مينينديز، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ فدعا لتجميد فوري «لجميع جوانب تعاوننا مع السعودية»، متعهدا باستخدام سلطته لـ «منع مبيعات الأسلحة المستقبلية» للمملكة، معتبراً أن الرياض تؤيد موسكو في حربها على كييف. ومع أن الأوكرانيين أنفسهم ـ وهم المعنيون في المقام الأول – يتهمون الإيرانيين لا السعوديين بالاصطفاف إلى جانب الروس إلا أن بعض أعضاء الكونغرس يبدو أوكرانياً أكثر من الأوكرانيين أنفسهم، وهو ما يعني أن الخلاف ليس سعودياً أوكرانياً، قدر ما هو أمريكي سعودي، تحاول من خلاله واشنطن أن تزج بالورقة الأوكرانية لتعضيد موقفها وتسويقه.
وعلى أية حال، فإنه من حق واشنطن أن تنتقد ما تراه إجراء لا يتفق والمصالح القومية الأمريكية، كما أن هذا أيضاً حق لأية دولة لضمان مصالحها الاقتصادية والسياسية، غير أن واشنطن لا ترى أن من حق دول أخرى ذات سيادة أن تقرر ما تراه متفقاً مع مصالحها القومية كذلك، وهنا مكمن الإشكال في العلاقة بين واشنطن وحلفائها التي يرى البيت الأبيض أنه يجب إعادة النظر فيها، وهو الأمر الذي رأت ريما بنت بندر سفيرة السعودية لدى أمريكا بأنه أمر «إيجابي»، مشيرة إلى أن «السعودية اليوم ليست السعودية قبل خمس سنوات أو عشر سنوات».
وهنا يمكن أن تساق جملة من الأسئلة حول تصرفات واشنطن المضرة بالحلفاء المفترضين: هل فكرت الإدارة الديمقراطية الحالية – مثلاً – في أثر حرصها على إحياء الاتفاق النووي مع طهران بمعزل عن التشاور مع «حلفائها الإقليميين»؟
هل أشركت واشنطن هؤلاء الحلفاء في المشاورات السرية التي جرت على عهد إدارة أوباما تمهيداً للإعلان عن اتفاق؟
هل فكرت في تمويل نظام طهران لميليشياته الطائفية التي تنشر والخراب في بلدان عربية عدة، بأموال أفرجت عنها واشنطن لصالح طهران؟
هل كانت ضغوط واشنطن وحليفتها لندن من أجل وقف معركة الحديدة في اليمن، والضغط عبر الأمم المتحدة ومبعوثها السابق مارتن غريفيث للذهاب لاتفاق استوكهولم الذي زُعم أنه كان لدواع إنسانية، هل كان ذلك كله يتسق ومصالح هؤلاء الذين تسميهم واشنطن حلفاءها في المنطقة؟
هل وقف صفقات أسلحة، ووقف التعاون العسكري، والضغوط الأمريكية المستمرة على التحالف والحكومة اليمنية التي تصب في مصلحة الحوثيين وكلاء إيران في اليمن، هل يخدم ذلك مصالح الحلفاء؟
هل تتعامل واشنطن مع الحليف الأوكراني تعاملها مع الحليف العربي على سبيل المثال؟
هل أحدث ضرب الطائرات المسيرة الإيرانية لمدن في اليمن والسعودية والإمارات الضجة ذاتها التي نسمعها اليوم في واشنطن حول أثر هذه المسيرات في أوكرانيا؟، ولماذا لم تُفرض عقوبات على إيران بخصوص تلك المسيرات إلا بعد أن أصبحت تشكل تهديداً للمصالح الغربية والأمريكية تحديداً؟
هل جاءت مواقف واشنطن لصالح الحلفاء في ملفات سوريا والعراق ولبنان واليمن، وكل بلد عربي طالته يد إيران، دون أن نتحدث عن مواقف أمريكا الثابتة في دعم إسرائيل ضد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني؟
لماذا تختل معادلات التحالف بين واشنطن وحلفائها العرب عند التعامل الأمريكي مع كل من: إيران وإسرائيل؟
يقول البيت الأبيض إن العلاقة مع الرياض بحاجة لمراجعة، ويبدو أن هذه العلاقة بحاجة إلى مراجعة تأخذ في الاعتبار مصالح جميع أطرافها، حسب مراقبين سعوديين وأمريكيين، هذه المراجعة ينبغي أن تضع النقاط على الحروف، بما يضمن المصالح العربية ومصالح واشنطن على السواء.
وهنا، يبدو أن مأزق واشنطن غير سهل، ذلك أنها تريد أن تراجع في الوقت الخطأ، إذ تريد أن ترسل رسائل قوية إلى الرياض، وفي الوقت نفسه تعرف أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يترقب أي تصدع في العلاقات التاريخية بين الحليفين من أجل أن يستثمر في هذا التصدع، إضافة إلى أن مزيداً من المراجعات من طرف قد يعني مزيداً من المراجعات من الطرف الآخر، وهو ما لا يريده الديمقراطيون قبيل انتخابات نوفمبر المقبل التي لا يُتوقع أن تكون نتائجها سارة بالنسبة لهم.
ولعل رغبة الإدارة الحالية في إرسال رسائل قوية للرياض من جهة وخشيتها من تداعيات محاولة إرسال تلك الرسائل من جهة أخرى هو السبب وراء تضارب التعليقات الصادرة من هناك، حيث نلحظ إزاء الأصوات الداعية إلى الحزم مع الرياض دعوات أخرى تدعو إلى تفهم الموقف ومعالجة أسباب ما جرى، إذ حذر عدد من المراقبين إدارة بايدن من اتخاذ إجراءات قد تستفيد منها الصين وروسيا اللتان تريدان العودة بقوة للشرق الأوسط، وقال مارتن إنديك، الدبلوماسي السابق في الشرق الأوسط إنه «يجب على الولايات المتحدة أن تسعى إلى إبرام اتفاق استراتيجي جديد مع السعودية بدلا من الطلاق معها»، وأشار آخرون إلى أن الرياض في وضع تفاوضي مريح، فواشنطن تحتاجها في ملفات أخرى غير الطاقة مثل ملف الإرهاب والنفوذ الإيراني، كما أن الكثيرين لا يريدون الإضرار بصفقات الأسلحة، لما قد يتيحه ذلك من فتح المجال لأسواق أخرى منافسة.
وفي الوقت الذي تؤكد واشنطن أنها بصدد مراجعة العلاقات، لكنها تعود لتؤكد أن «السعودية حليف مهم»، وأن العلاقات بين الطرفين لن تتأثر، وأن مراجعة العلاقة لن تكون على حساب التعاون فيما يخص أمن الخليج ومواجهة النفوذ الإيراني، وهو النفوذ الذي لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه لولا السياسات الأمريكية التي عملت بشكل مباشر أو غير مباشر على تعضيده، رغم بعض المحاولات الشكلية لكبح جماحه، الأمر الذي يعكس حقيقة أن أمريكا لا تريد إيران قوية إلى الدرجة التي تهدد المصالح الغربية والإسرائيلية، ولكنها تريد إيران قوية إلى الدرجة التي تهدد بها المصالح العربية والخليجية، بما يبقي الخليج محتاجاً للتنسيق مع واشنطن، وبين الرغبتين المتضادتين تجد طهران مجالاً لاستغلال الهوامش والتوسع والخلوص من المآزق، وهذا كله بفعل سياسة التوازنات التي تديرها واشنطن للحفاظ على إيران قوية إزاء العرب وضعيفة أمام إسرائيل، وإبقاء السعودية قوية إلى القدر الذي يحفظ مصالح أمريكا، ولكن ليس إلى القدر الذي تستغني عنده الرياض عن تحالفها مع واشنطن.