حريق في عيون زرقاء
يفتتح الشاعر الإنكليزي روديارد كبلنغ قصيدته “أغنية الشرق والغرب” بالعبارة: “الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا”، وهي العبارة التي انتقلت من حقلها الجمالي الشعري إلى حقول آيديولوجية وسياسية، حملت الكثير من الإسقاطات الاستشراقية القائمة على فكرة “المركزية الغربية” التي يمكن أن نلمحها في أعمال فكرية وأدبية وتاريخية غربية مختلفة.
ربما كان من المناسب استعادة هذه العبارة مع تتبع كم كبير من التعليقات التي ضخّتها – خلال الأيام الماضية – وسائل إعلام غربية مختلفة حول الحرب في أوكرانيا، حيث حفلت تغطيات كثيرة لشبكات تلفزة وصحافة غربية – ناهيك عن مواقع التواصل – بكم غير قليل من “الرؤى المُنَمَّطة” للحرب التي وُصفت بأنها “صادمة”، لأنها تشتعل ضد “شعب بشعر أشقر وعيون زرقاء”، في “الجغرافيا المقدسة”، الأمر الذي يستدعي رواسب “المركزية الغربية المستترة” وغيرها من الأفكار ذات العلاقة.
وعلى الرغم من التعاطف الطبيعي الذي حظيت به الأوضاع الإنسانية في أوكرانيا، فإن كثيراً من التعليقات خرجت عن سياقها الإنساني إلى مناحٍ عنصرية واضحة سلطت الضوء على الحرب باعتبارها “صدمة”، ليس لأنها حرب وحسب، ولكن لأنها تجري في بلد “أوروبي مسيحي أشقر بعيون زرقاء”، حيث وردت عبارات لمراسلين ومعلقين عن لاجئين “لا يختلفون عنا”، في إعمال واضح للجغرافيا والدين واللون والعرق في التحليل والتغطية.
كتب الصحافي البريطاني الذي كان سياسياً محافظاً ديفيد هنان في التلغراف عن اللاجئين الأوكرانيين: “إنهم يشبهوننا إلى حد كبير، وهذا ما جعل الأمر أكثر فظاعة” .
وقال مراسل شبكة “سي بي أس” من كييف: “هذا المكان ليس العراق أو أفغانستان…إنها مدينة متحضرة وأوروبية لم يكن أحد يتوقع حدوث هذا فيها”، في استدعاء وضاح لتقابل الحضارة والبربرية.
ويوم الجمعة الماضي كان أحد المحللين على قناة “بي أف أم” التلفزيونية الفرنسية يقول: “إننا لا نتحدث عن لاجئين سوريين هاربين من ظلم الأسد المدعوم من بوتين، ولكن نتحدث عن أوروبيين يركبون سيارات تشبه سياراتنا”، وهو ما جعل الفوارق العنصرية تمتد – في نظر هذا المعلق – إلى أنماط وأساليب العيش التي تفرق بين ضفتين للمتوسط يركب سكان إحداهما “سيارات”، فيما لا يزال سكان الضفة الأخرى في زمن ركوب الحصان، على أفضل تقدير.
كان إدوارد سعيد ينتقد الفكرة الاستشراقية القائمة على مركزية الحضارة الغربية، وهي المركزية التي رغم محاولات تهذيبها بكثير من “وسائل التستر”، إلا أنها تظل تظهر في كثير من الأعمال في التلفزيون والمسرح والسياسة والتاريخ والآداب والفنون، كما تظهر في كثير من فلتات ألسنة الساسة التي تُخرج كوامن الأعماق في كثير من لحظات التدفق الانفعالي المشابهة لتلك اللحظة الشعورية التي تصور فيها كبلنغ الغرب والشرق خطين متوازيين لا يلتقيان، وهي الفكرة التي تترجمها تيارات اليمين الأورو-أمريكي ترجمة عنصرية واضحة، والتي تقبع في ذهنية حرس الحدود الذين ميزوا بين اللاجئين الهاربين من أوكرانيا على أساس اللون والعرق، حسب بيان لمفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.
وبطبيعة الحال فإنه من غير المطلوب من الدول الأوروبية أن تتعامل مع قضية أوكرانيا تعاملها مع القضية السورية أو العراقية أو الأفغانية أو الفلسطينية، وذلك بحكم عوامل التاريخ والجغرافيا والثقافة والدين كذلك، كما يمكن تَفهُّم هذا الاستنفار الأوروبي الأمريكي لما يحصل في أوكرانيا، لكن ما ليس مقبولاً هو المبالغة المقيتة في التركيز على هول “الصدمة” التي لم تأت – فقط – من فظاعة الحرب كفعل مروع، بل من كونها اندلعت ضمن جغرافيا وثقافة ولون وأنماط معيشة محددة، “لا يفترض أن يجري عليها ما يجري على غيرها”.
ويوم الأحد الماضي قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إنه سيفتح باب التطوع للمقاتلين الأجانب للقتال في بلاده ضد الروس، وبغض النظر عن ممارسة رئيس منتخب لحقه السيادي فيما يراه مناسباً للدفاع عن بلاده، وعن جدوى الدعوة والهدف منها، إلا أن بعض التأييد الذي لقيته تلك الدعوة لدى دول وكيانات غربية مختلفة يدعو للتوقف عند مسألة تجريم ذهاب الأجانب للقتال في سوريا أو ليبيا أو العراق، ويضعنا أمام أسئلة من مثل: إذا كان ذهاب الأجانب للقتال في سوريا إرهاباً يجب محاربته، فلماذا يعد ذهاب الأجانب للقتال في أوكرانيا كفاحاً يجب دعمه؟! وهل الروس في سوريا غيرهم في أوكرانيا؟ أم لأن جوار سوريا غير جوار أوكرانيا، أم أن ديانة المقاتلين الأجانب هي التي تميز بين العمل الإرهابي والآخر الكفاحي؟
أما الإشادة التي لقيها تفجير جندي أوكراني نفسه في دبابة روسية كانت تحاول العبور من شبه جزيرة القرم إلى البر الأوكراني، هذه الإشادة بهذا العمل “البطولي” الذي ضحى بموجبه هذا الجندي بنفسه، ليوقف تقدم العدو داخل بلاده تثير أسئلة أخرى أكثر إرباكاً من مثل: لماذا يعد تفجير المقاوم الأوكراني نفسه في رتل روسي عملاً “بطولياً”، فيما يعد تفجير المقاوم الفلسطيني – مثلاً – نفسه في الجنود الإسرائيليين الذين يحتلون بلاده عملاً “إرهابياً”؟ وأسئلة أخرى كثيرة ومربكة عن تحديد مفاهيم الإرهاب والبطولة، وماهية المعايير التي تجعل عملاً ما بطولياً في بلد وإرهابياً في آخر، ومدى انضباط تلك المعايير التي شجعت ذهاب “المجاهدين العرب” إلى أفغانستان للقتال ضد السوفييت، كعمل “جهادي وبطولي”، للدفاع عن بلد “مسلم محتل” ضد “الاحتلال الملحد”، ثم غيرت رؤيتها، لتعتبر هؤلاء “المجاهدين” إرهابيين فيما بعد، في “ازدواجية” يمكن تبريرها سياسياً، لكنها لا تتسق والتنظير المبالغ فيه عن مبدئية السياسات وإنسانية القوانين وعالمية القيم الغربية التي يبدو أنها “قيم جغرافية” خالصة.
ولعل التفسير الذي يمكن أن يسلط الضوء على “ازدواجية المعايير” تلك يكمن في ما ذُكر في بداية المقال عن “المركزية الغربية” التي تصدر أحكامها بناء على مجموعة من المصالح والتصورات، من مثل تلك التي أوردها الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، وهي تصورات ترى أن الديمقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية – في مضامينهما الغربية – هما آخر مراحل التطور الآيديولوجي للإنسان، ولذا يفترض تعميمهما في موجات من العولمة “الرسالية” التي لا تختلف في مناحيها القطعية عن اليقينيات الدينية.
من هنا فإن تعريف فعل ما بأنه بطولي أو إرهابي لا يرجع في الواقع لطبيعة هذا الفعل وماهيته، ولكن لزاوية النظر المختلفة التي يُنظر إليه من خلالها، ومدى ملاءمته لثقافة وفكر وحضارة ولون وجغرافيا مركزية معينة، تمثل معيار المعايير في الحكم على الأشياء، حتى ولو كان لها حكمان مختلفان على فعل واحد.
صحيح أن الحقل السياسي الغربي غادر فكرة “مركزية الملك في الدولة”، لكنه – فيما يبدو – طورها إلى فكرة أخرى هي “مركزية الغرب في العالم”، وصحيح أن الملك لم يعد فوق الدستور، لكن الكثيرين على ضفتي الأطلسي لا يزالون يرون أن الغرب هو القانون الدولي، وهي أفكار ترتبط بالغرائزية والعنصرية الشعبوية أكثر من ارتباطها بالموضوعية والمعاني الإنسانية.