كارثة " المكارثية " .!
لا شيء يدمّر المدن ويذلُّ الشعوب ويسحق القيم مثل الفوضى والصراعات الإثنية والطائفية والعرقية، والثأرات.
إلى وقت قريب كُنّا نقول ، غالباً، إن المخاوف من الصراعات التي تأخذ أشكالاً ومؤثرات طائفية، مخاوف مبالغ فيها، وإنها في غير مكانها إلى أن صُعقنا بـ « آرت» و«نار» هذه المخاوف في عدّة أماكان وعديد من المناسبات .وللأسف الشديد فقد وصل هذا الشرّ المستطير ببعضنا إلى مستوى أن من اختلف مع هذا الشخص ، أو ذاك ،أو كان بينهما حسابات قديمة ، يقوم اليوم بالتبليغ عنه كمصدر خطر، إما لـ «أنصار الله» ، أو لـ «أنصار» ما يُعرف بـ «الشريعة» في المناطق التي تتواجد فيها عناصرهما ونفوذهما ،أو حتّى في قلب العاصمة صنعاء وكبريات المدن، التي حتماً بها مندوبون لهما.
بمعنى إنه يقول مثلاً لـ «أنصار الله» ، أو « الشريعة»وأتباعهما «هذا داعشي»، أو هذا رافضي . وغير بعيد نتذكّر إنه خلال الفترة التي أندلعت فيها أحداث وأزمة العام 2011 سمعنا عدة تصنيفات من قبيل( عفّاشي ، إصلاحي ، ساحة الجامعة ، السبعين ، فلول ، إخوان ) وغيرها . وقد كان لها ، بالطّبع ،تبعاتها وفواتيرها التي دُفِعت من الجميع .
نعتقد إننا من خلال هذه الانحدارات والمفردات نتجاوز فكرة ومصطلح « المكارثية » الذي ظهر في الولايات المتحدة الأميركية عقب الحرب العالمية الثانية ، حيثُ أنتشروبشكل واسع وخطير في المجتمع الأميركي ،لدرجة إنه أعتبر حينها إرهاباً فكرياً وثقافياً مروّعاً كاد أن يقضي على قيم الحرية والتعايش والفكروالإبداع والنهوض ، فبمجرّد ما كان الساسة يختلفون مثلا، مع شخص ما ،أو كاتب ما ، وجّهوا ناحيته سهام ومخالب « المكارثية » من قبيل هذا « شيوعي »، « لاتيني » ، « نازي » ، « فاشي» وغيرها .
الرئيس الأميركي « دوايت إيزن هاور » الذي أنتهت فترته الرئاسية في العام 1961، وخلفه “ جون كنيدي” ورغم إنه لم يكن ( هاور ) من الذكاء والحنكة التي تضعه في خانة الرؤساء الاميركيين المشاهير أمثال « إبراهام لنكولين » ، « فرنكلين رووزفلت » ، « نيكسون » ، « جورج واشنطن » ، « جيمي كارتر » ، وغيرهم ،إلى أنه تعامل مع هذه المشكلة ( المكارثية ) وقادها ببطء وبطريقة ناجحة جدا ادّت في النهاية للقضاء عليها وتجنيب البلاد شبح الإنهيار والتفتت والحرب الأهلية .
صحيح إن( المكارثية ) وما في مستواها تأخذ في بداياتها طابعاً يعتقد البعض إنه من باب الإبتزاز السياسي المرحلي، أوالتشهير، أوالمصالح الآنية ، لكنها قد تتطوّرإلى ثقافة راسخة وسائدة وواسعة تستعصي على الحلول ،سيما إذاما سايرتها مشاكل وتعقيدات مجتمعية معينة ، كالطائفية والفقر والمناطقية والعنصرية وضعف كيان الدولة ومؤسساتها ، إلى جانب التوظيف السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي والإعلام ، تماماً كما هو حاصل هذه الأيام .
أقول إذا الناس يخافون من بعضهم البعض ويصورن بعضهم البعض بهذه الصور التي نشاهدها هنا وهناك، ويتصيدون الأخطاء في ما بينهم بخلفيات سياسية ومناطقية وعقائدية ، فلن ينجو أي مجتمع من الكارثة التي تؤدي إليها ( المكارثية ) برؤوسها المتعددة، ولن يقدموا شيئاً لشعوبهم ، خاصة إذا تكرّست في الثقافة ولغة الخطاب والفكر مصطلحات التكفير، والنفي ( تكفيري ، رافضي ، داعشي ، مجوسي ) وهلّم جرا . فهذه المصطلحات حقيقة أخطر بكثير من ( المكارثية ) لأنها تقود للاستهانة بكل شيء واسترخاص كل شيء ، وفي المقدمة حياة الآخرين ،و الابتذال ، وتدنيس واهانة المقدسات والقيم والأخلاق والتقاليد والعادات والصفات الجميلة والحميدة.
على أية حال ، أعتقد إنني لا أقدّم جديداً، أو أذيع سرّاً هنا حينما أقول: يجب الحذر الشديد من هذه الأعراض والمقدمات والعوامل البيئية لانتشار أي وباء فكري من هذا النوع التدميري،الذي نستطع مواجهته بالمصالحة واقامة علاقات إنسانية حميمية وراقية متجاوزة لكل الخلافات ، اضافة لعدم السماح بوجود مستنقعات وفراغات تملأها هذه الأفكارالجنائزية والمصطلحات الهدّامة، العابرة للحواجز والمفاهيم والمزلزلة للثوابت ، والأخلاق والحب والتسامح .
لكن وبنظرة تفاؤلية لها ما تستند إليه ،ففي ظنّي المتواضع أعتقدُ إنه ورغم كل ما يحصل في مجتمعنا ومحيطنا من تداع وانحرافات خطيرة عن سبيل الرشاد،يحقُّ لنا ، بصدق واعتزاز ، أن نثق في إنه ما يزال لدينا مقومات التعافي وامكانيات وأرصدة المجتمع الحضاري ، الأصيل الذي يستطيع أن يحمي نفسه من التفكك ، الصراعات ، والوهن ،والفوضى ، و ( المكارثية ) ، والرجعية وغيرها .
ومن المناسب الإشارة في الختام إلى أن هناك مسألة ونموذجاً مهمان في هذا الأمر ، ولا تعني الإشارة إليهما إننا نقلدهما ،أوندعو لاتّباعهما بكل شيء ، وإنما للاستفادة من تجارب الشعوب والأمم وأخذ ما يفيدنا منها ويتناسب مع خصوصياتنا وثوابتنا واحتياجات عصرنا وترك ما عدا ذلك .
وهذا النموذج يتمثّل بالتجربة الغربية ، فالحداثة والنهضة في أوروبا ، بِعِلم الجميع ، بدأت فور القضاء على محاكم التفتيش وسلطة الاقطاع الظالمة والقطيعة « الحدّية » الكاملة معها ومع المعيارية التاريخية بأبعاد وجوانب وأوجه مختلفة وجوهرية، لتكتمل وتتبلوربعد ذلك مع الثورة الفرنسية، ملهمة الثورات، آخذةً بالتجذّر في المجتمع والوعي الغربيين ، مؤسّسة لواقع جديد وثقافة جديدة مرتكزاتها الحرية الفكرية والإبداع والديمقراطية والانتاج والمدنية والعدالة الاجتماعية وسلطة القانون والعِلم.