اليمن وتداعيات "نصف ثورة"
موعودة هي اليمن بالإنجازات التاريخية الناقصة، والتي تتسبب لاحقاً في تداعيات خطيرة. في إنجاز الوحدة اليمنية ما بين أواخر 1989 وأوائل 1990 سار كل شيء على ما يرام في بناء الوحدة، وأمكن تحقيق معادلة تغري الطرفين الشمالي والجنوبي بقبول الوحدة. كانت فكرة هذه المعادلة هي اعتبار الشطر الجنوبي نداً للشطر الشمالي في مؤسسات الحكم (على رغم صغر عدد سكانه) مع فروق بسيطة ولكنها حاسمة لإبقاء ميزان القوى على النحو الذي يجعل زمام السلطة في يد الرئيس اليمني (المنتمي للشمال) علي عبدالله صالح، وقد كان كل من رئيس مجلس النواب ومجلس الوزراء من الجنوب غير أن رئيس الجمهورية كان رئيساً لمجلس رئاسة يتكون من خمسة أعضاء منهم اثنان جنوبيان (أحدهما نائب للرئيس) واثنان من الشمال بحيث تكون الكلمة الأخيرة فيه لرئيس الجمهورية.
غير أن ما حدث على مستوى مؤسسات الحكم توقف عند المؤسسة العسكرية، فلم يمكن توحيد القوات المسلحة في الشمال والجنوب، وإنما بقي كل منهما على حاله، وكان التغيير الوحيد الذي تم هو إعادة توزيع وحداتهما بحيث توجد وحدات شمالية في الجنوب وجنوبية في الشمال، ولما كان وزير الدفاع من الجنوب ورئيس الأركان من الشمال فقد بدا أننا إزاء جيشين يأتمر أحدهما بأمر الوزير والثاني برئيس الأركان. وعندما توترت العلاقات بين نخبتي الحكم في الشمال والجنوب لأسباب لا محل لذكرها في هذا المقام، وأخفقت كل محاولات التوفيق بينهما، وتصاعد صراعهما بشكل واضح كان وضع المؤسسة العسكرية اليمنية على هذا النحو عاملاً سهّل الصدام العسكري وصولاً إلى ما عرف بحرب الانفصال 1994. وعندما انتصر جيش الدولة المركزية (أي جيش الشمال) على الانفصاليين (أي جيش الجنوب) بقيت الوحدة، ولكن هذا الإنجاز الناقص تسبب مرة في تسهيل نشوب الحرب، ومرة ثانية في إجراءات اتخذها المنتصرون تجاه جيش الجنوب، وأهمها الإحالات واسعة النطاق للتقاعد وما ترتب عليها، والتي كانت نقطة البداية في نشأة "الحراك الجنوبي" الذي تبلور لاحقاً في حركة مطلبية متكاملة بسبب المزيد من أخطاء الممارسة من حكومة دولة الوحدة إلى أن وصل هذا "الحراك" إلى حد التهديد الحقيقي حالياً لبقاء الوحدة اليمنية.
كان هذا هو مردود الإنجاز الناقص في تجربة الوحدة اليمنية، وتكرر الأمر نفسه في الثورة الأخيرة لشباب اليمن ومن والاهم من قوى سياسية وقبائل، فقد تحمل هؤلاء الشباب ومؤيدوهم بجسارة وتصميم ردود فعل النظام التي تميزت بالعنف المفرط، وهكذا صمد الثوار وفرضوا أنفسهم على المشهد السياسي، ولما كان اليمن رقماً مهماً في المعادلتين الإقليمية والعالمية فقد أظهرت دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة اهتماماً فائقاً بما يجري وتداعياته، وفي هذا الإطار ولدت "المبادرة الخليجية" بعد مخاض عسير، وكان أهم ما تضمنته تنحي علي عبدالله صالح عن الرئاسة لنائبه عبد ربه هادي منصور، وبدء مرحلة انتقالية يعاد فيها البناء، على أن تبقى مؤسسات النظام القديم في هذه المرحلة ممثلة في "نصف" وزارة الوحدة الوطنية ومجلس النواب الذي انتخب في عهد صالح، ويتمتع فيه حزبه بطبيعة الحال بالأغلبية، وقد تنحى علي صالح بالفعل بعد مماطلة طويلة عن منصب الرئاسة لصالح نائبه الذي صدق الشعب لاحقاً على توليه الرئاسة في انتخابات كان هو المرشح الوحيد فيها.
غير أن التطورات اللاحقة أثبتت أن علي عبدالله صالح لم يستسلم، فهو رئيس حزب المؤتمر الشعبي العام (حزب الأغلبية إلى حين إجراء انتخابات جديدة)، وبهذه الصفة يستطيع أن يتدخل في أية انتخابات رئاسية أو نيابية قادمة، ومن ناحية أخرى بقي الجيش اليمني على حاله "الأسري" حيث يتمتع إخوة علي عبدالله صالح بكافة المواقع القيادية تقريباً بينما يتولى ابنه أحمد قيادة الحرس الجمهوري أقوى وحدات الجيش اليمني وأحدثها تسليحاً وأفضلها تدريباً، ولذلك فإن الجيش ظل على ولائه لصالح حتى النهاية باستثناء الفرقة التي تمردت بقيادة أحد إخوته، واقتصر دورها على محاولة حماية الثوار. وبسبب هذا الوضع "العائلي" للمؤسسة العسكرية اليمنية بدأ الرئيس الحالي يتخذ قرارات تهدف إلى تغيير هذا الوضع، وكان دائماً يواجه صعوبات في التنفيذ وتهديدات بالتمرد من قبل المضارين من قراراته إلى أن اقترب أخيراً من الحرس الجمهوري.
كانت خطة الرئيس في هذا الصدد هي تقليص قوة الحرس الجمهوري الذي يخضع لقيادة نجل الرئيس السابق، فاتخذ في الأسبوع الماضي قرارات بنقل قيادة بعض وحدات الحرس الجمهوري إلى قوة تشكلت حديثاً تسمى "قوات الحماية السياسية" تخضع لسيطرته، بالإضافة إلى وضع وحدات أخرى تحت سيطرة قيادة إقليمية مختلفة، وبهذا يحد من صلاحيات قائد الحرس الجمهوري، فما كان من قوات هذا الحرس إلا أن هاجمت وزارة الدفاع اليمنية، وعلى الفور أُرسِلَت قوات حكومية إضافية للدفاع عن مبنى الوزارة، وبدأ إطلاق النار بعد أن طوق نحو مائتين من قوات الحرس الجمهوري وزارة الدفاع في تحدٍّ مباشر لعملية إعادة تنظيم الجيش التي يقوم بها الرئيس، وأسفر القتال وفقاً لبيان وزارة الدفاع عن مقتل شخصين وإصابة عشرة آخرين، وبعدها توعدت اللجنة الأمنية العسكرية العليا كل من يحاول المساس بأمن الوطن بتعامل صارم، كما اعتبر المتحدث باسمها ما شهدته وزارة الدفاع أمراً مرفوضاً ونتاجاً للأزمة التي تعيشها البلاد داعياً قيادة المتمردين إلى ألا تكون سبباً في تأجيج الأوضاع، وكلها ردود أفعال ضعيفة يبدو أنها تأخذ في حسبانها موازين القوى التي ما تزال قائمة حتى الآن، فلا حديث عن إحالة قيادات -بمن فيهم قائد الحرس الجمهوري نفسه- إلى التقاعد، أو محاسبة المسؤولين عن هذا العمل قضائياً.
لم يبن الرئيس السابق في اليمن إذن جيشاً وطنياً وإنما جيشاً "عائلياً" كي يكون هذا الجيش ضمانة لحكمه، وهو ما تسبب في إراقة دماء كثيرين من الثوار، وما زال يعرقل مسار الثورة إلى الآن، ويبدو هذا واضحاً من مقارنة حال الجيش اليمني وموقفه بنظيريه التونسي والمصري، حيث لعب الجيشان دوراً حاسماً في نجاح الثورة في بلديهما بعد أن تأكدا من شعبيتهما، وإن الإخفاق في بناء جيش يمني حديث نابع من إخفاق أكبر في بناء الدولة الوطنية في اليمن، ومن شأن بقاء هذا الوضع واستمراره ألا يعرقل المسار الثوري في اليمن فحسب وإنما لابد وأن تنعكس آثاره أيضاً على أمن اليمن بل وجهود التنمية فيه. هكذا لعبت أوضاع الجيش اليمني مرتين دوراً معاكساً في تطوير اليمن، بسبب عجز أولي الأمر عن الوصول به إلى المستوى اللائق لجيش وطني حديث، ففي الوحدة اليمنية وضع الإخفاق في توحيد جيشي الشمال والجنوب بذور فناء الوحدة بحرب الانفصال أولاً ثم بسوء إدارة الأوضاع في الجنوب ثانياً مما أدى إلى ظهور حركة مطلبية -كما سبقت الإشارة- تطورت لاحقاً بحيث أصبحت تشكل خطراً على بقاء اليمن الموحد، وها هو الجيش "العائلي" يقف عقبة في سبيل التحول الديمقراطي في اليمن بعد ثورة شعبية سالت فيها دماء غزيرة من شباب اليمن ومؤيدي الثورة، وإن الخروج من هذا النفق المظلم يمثل بحق بداية لا غنى عنها لنهضة اليمن.
عن "الإتحاد الإماراتية"