عودة إلى الرموز

وفق الأسطورة القديمة كان البشر يتكلمون لغة واحدة، غير أن ألسنتهم تشعبت وتمايزت بعد انهيار المملكة البابلية القديمة بسبب غضب الرب، ولم يعد بإمكان الإنسان فهم أخيه الإنسان  .. وبعيدا عن مصداقية الأسطورة إلا أن البشر الآن أضحوا قاب قوسين من العودة إلى تلك اللغة الكونية المشتركة ..!!


أكثر من أي وقت مضى، تشعبت طرق التعبير عن الأفكار والرؤى والمشاعر بفضل التكنولوجيا الحديثة، وتطبيقات الحاسب الآلي التي أثمرت انبثاق (الميديا الحديثة) حيث تعد مواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك والواتساب أشهر تجلياتها الطافحة بالاستخدامات المتواترة للرموز والإشارات والصور إلى جانب الكلمة المكتوبة والشفاهية حينا وكبديل عنها في أحيان أخرى.. ما جعل البعض يرفع راية التحذير من خطورتها على الكلمة المكتوبة وعلى نشوء جيل من الشعراء والكتاب والأدباء بله من إمكانية ظهور جيل قادر على التعامل مع الكلمة المكتوبة أساسا، وهو أمر لا يخلو من مبالغة ويفتقر لوعي مدرك لسياقات تطور وسائل الاتصال وتأثيراتها.


لا يبدو غريبا أن اكتشافنا للكلمة المكتوبة لم يلغِ قدرتنا على الكلام الشفاهي. بل  تضاعفت قدرات البشر الشفاهية وتوسعت خطوط نقل الأفكار والمعلومات مكانيا وزمانيا بفضل الكلمة المكتوبة واضطردت بشكل هائل مع ظهور الطباعة..  مثلما ان اكتشاف التلفزيون والصورة المتحركة المرئية، لم يؤدي إلى اندثار الإذاعة، فلا تزال فئات اجتماعية واسعة تتوسل حاسة السمع في إشباع حاجاتها المعرفية والإعلامية، كما الحال في الولايات المتحدة الأمريكية حيث مستمعي الراديو يتجاوزون بأضعاف مشاهدي قنوات التلفزة.. وجميع تلك المعطيات تقدم دلالات راسخة في أن وسائل التكنولوجيا والاتصال لا تنحو تجاه إلغاء بعضها البعض، بل الضد تماما. هي تتكامل في نقل المعلومات والخبرات وتخزينها لتسهم في تراكم المعرفة ونتاجاتها  التطورية المذهلة التي لم تشهدها  البشرية طيلة تاريخها التليد.


ربما كان اللجوء إلى الرموز والرسوم والصور الدالة على المشاعر والأفكار من ابتسام وحزن وإعجاب وغيرها، التي تعج بها مواقع التواصل الاجتماعي..  يؤشر لعجز في التعبير كتابيا أو شفاهيا، إلا أن ضيق الوقت هو الدافع الأكبر وراء كثرة استخداماتها، فضلا عن أنها غالبا ما تكون أكثر تعبيرية و إيجازا.. ورب صورة ابلغ من ألف كلمة ... إلى ذلك فهي تكشف بجلاء التوجهات السياسية والإيديولوجية لمستخدميها إزاء الأحداث الجارية، فكثيرا ما يعمد مستخدم ( الفيس بوك) الى وضع صورة لشخصية عامة أو رمزا لجماعة سياسية في صفحته الشخصية كتعبير عن تضامنه معها ومشاركته أفكارها وتوجهاتها أو بعضا منها.


 والأكثر.. أن الصورة والرمز والإشارة مكتفية بذاتها، بخلاف الكلمة المنطوقة أو المكتوبة، فلا تحتاج ترجمان لنقل معانيها فهي لغة كونية، متلائمة تماما مع وسيلتها الناقلة، الانترنت كشبكة عالمية تتجاوز الحواجز الجغرافية.. ولعلها ذاتها لغة التفاهم المشتركة بين البشر قبل بابل .. وطالما ان علماء الانثربولوجيا يؤكدون أن التعبير بالإشارة والرمز كان سابقا على اكتشاف الكلام.. فيبدو أن التكنولوجيا الحديثة تقودنا حثيثا نحو العودة إلى اللغة الأولى للبشر.

مقالات الكاتب